الخميس، 6 يوليو 2017

أحمد حجازى وعمودُ الشعر


أحمد حجازى وعمودُ الشعر




رَغِبَ إلىَّ الأخُ الكريمُ الأستاذُ محمود حسن أنْ أشاركَ فى اجتماعٍ أدبىّ عَقَدَهُ تحيّةً للأخ الكريم الأستاذ أحمد عبدالمعطى حجازى، احتفالًا بيوم ميلاده، فكتبتُ الكلمة التاليةَ وفاءً برغيبةِ صاحبِ "الكرمة"، ورغيبتى كذلك، ووفاءً أيضًا بمبحثٍ أراه مهمّا من مباحث النقد الأدبى كان فى نيّتى معالجتُه منذ زمن، ومازلتُ أُصْرَفُ عنه حتى جاءت المناسبة، وعَسَى أن تكون الاستجابةُ لصاحب "الكرمةِ" - شكَر اللهُ له - أولَ الغيث.
وقبل أن أبدأ أقول:
نبهنى ريبالٌ إلى شىء. أن كثيرًا من الناس تجرى على ألسنتهم عبارةُ "الشعر العمودى" فى مقابل "الشعر الحر"، وكأنهم نظروا إلى المنظر المرسوم على الورق فى الحالين. هنا تعرّجٌ، وهنا استقامةٌ شُبهت باستقامة "العمود"، وقال إنه هو نفسه كان واقعًا فى ذلك الوهم. ولذلك طلب منى المبادرة إلى التصحيح. تلك المشابهة خطأ. لأن علماءنا القدامى الذين تحدثوا فى معنى "العمود" لم يقصدوا ذلك المعنى الشكلى أو العروضى، وإنما قصدوا المعنى البلاغى، أى الصفة التى بها يجود النظم ويكون جديرا باسم الشعر، فعمود الشعر - إذن - عماده أو ما يقوم به، وهو المعنى الذى عنيته لـمَّا ذكرت الكلمة فى العنوان.
أحمد حجازى وعمود الشعر
أحمد حجازى ينظم الشعرَ منذ أكثرَ من ستين عامًا، مدَّ الله فى عمره ومتّعه بالصحة والعافية. لـمّا بلغ العاشرة كانت الحربُ العالميةُ فى نهايتها. ولـمّا بلغ السابعةَ عشرةَ بلغه معها أن الملكَ تنازل عن العرش وأن محمد نجيب تولَّى الأمر. ولم يلحظ أحمد حجازى فى ذلك الوقت، بطبيعة الحال، أعنى بحكم السنّ - وسنُّ النضج فى بلادنا تتأخر لشيوع الجهل - أقول: لم يلحظْ أن "كافرى" السفير الأمريكى فى مصر كان فى وداع الملك وهو يرحل، ولو أنه كان لَحَظَ فقد كان من العسير عليه إدراكُ الدلالة. كان الأفقُ يملؤه غبَش. ولـمّا بلغ العشرين تقريبًا غاب نجيب وتولّى عبدالناصر. ومعه بدأ الناس يحلمون، لا فى مصر وحدها، بل فى كثير من البلاد العربية. وبحكم سنة الله فى اختلاف العباد كان هناك حالمون آخرون. مختلفون، لكنهم جميعًا يحلمون. لم يكن أحدٌ يملك شيئًا، لم يكن يقْوى إلا على أن يحلم ! ومع سطوة الاستبداد اشتد الغبش. كاد الطريق إلى المعرفة أن يكون مسدودًا. ولهذا كان مقضيًّا على أحمد حجازى أن ينضمّ إلى ركْب الحالمين. الذين حسبوا أن لهم إرادة. وأعجبهم أن ينقادوا.
وجاءت سنةُ سَبْعٍ وستين، وفيها بلغ أحمد حجازى الثانيةَ والثلاثين. كان فى شرخ الشباب، فى سنّ مفترضٍ أنها سنُّ نُضج. وفى صبيحة الخامس من يونيو جاءه النبأ من الإذاعة طاويًا مصر من أقصاها إلى أقصاها بصوت أحمد سعيد مجلجلًا مدويًّا معلنًا أن الحرب التى كانت تنتظرها الدنيا كلها بدأتْ، وبدأت طائرات العدوّ تتساقط. وفى آخر النهار جاءه نبأ آخر وقَع عليه كأنه صاعقة: لقد هُزمنا.
كانت الصدمة شديدة على الناس جميعًا، لكنها كانت على الشعراء - لأنهم شعراء - أشدّ. قال أحمد حجازى مصوّرًا أساه، متسائلًا عن علة ما جرى دون أن يجد أى جواب:
. . . مَن تُرى يَحمل الآن عبءَ الهزيمة فينا،
المغَنّى الذى طاف يبحث للحلم عن جسدٍ يرتديهْ
أمْ هو الملِكُ المدّعى أن حلْمَ المغَنّى تجسّد فيه ؟
هل خُدعتُ بمُلكك حتى حسبتكَ صاحبىَ المنتظَرْ،
أمْ خُدعتَ بأغنيتى،
وانتظرتَ الذى وَعَدَتْكَ به ثم لم تنتصرْ،
أمْ خُدعنا معًا بسراب الزمان الجميل ؟!
يريدُ بالعمر الجميل العهد الذى هنِئَ فيه بالأمانىّ الأثيرة والأحلام التى زخرفتها ثقةٌ لا حدّ لها بالزعيم.
أقول قولى هذا تمهيدًا لموضوعى "أحمد حجازى وعمودُ الشعر" ولا يعجلنَّ أحدٌ فيزعمَ أن الفرق بينهما كبير. كلا، إن بينهما علاقةً وهى - فيما أرى - وثيقةٌ كلَّ الوثاقة. ولا يعجلَنّ بعدُ فيحتجَّ بكلمة الباقلانىّ قديمًا "الشعرُ بمعزِلٍ عن الدين" فإن الناقد البصير لم يُردْ إلا أن يبطل تحكيم معايير الدين فى الشعر، للدين عالمه وللشعر عالمه، ولا ينبغى الخلطُ بين العالمين. ويكفى توكيدًا لهذا المعنى أن الشافعىّ العظيم - رضوانُ الله عليه - لم يتحرّج من زيارة أبى نواس فى مرض موته، وهو ما تعرفون من سيرته السيئة. أدرك الشافعىُّ - وغيرُه بطبيعة الحال أن اللغة، شعرَها ونثرَها، هى أجْلَى معرِض للوجود السياسىّ للأمة. إن انهيار اللغة مؤذِن بانهيار الأمة كلها. والشعر خصوصًا مَنبهةٌ للناس لكونه موزونًا ولكون الوزنِ مثيرًا للوجدان. والشعر إذَنْ، وكل ما يتصل به، مسألةٌ ذات خطر. هكذا كانت قديمًا. أدرك هذا عمرُ رضوان الله عليه فى قوله الشعر ديوان العرب، وعلَّمنا مِنْ قبله أن ندركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى استجاشته الشهيرة لحسّان، وأدركه مِن بعدهما عبقرى العربية الفذّ أبو تمام فى بيته السّيّار:



ولولا خلالٌ سنها الشعر ما درى بناةُ العلا من أين تُؤتى المكارمُ



وإذن فالشعر هو الأعلى. لهذا كان معنيًّا به مرعيًّا طَوال الحقب المختلفة للتاريخ العربى. وهو موضع عنايةٍ ورعايةٍ فى كل علوم اللغة لا فى علم العروض فقط. ونقدُه، أى البصرُ الدقيق به، علمٌ مأثور، وسيبقى علمًا مأثورًا بإذن الله ما بقىَ أهلُه مهتمين به الاهتمام الواجب.



عمود الشعر وعمادُه هو الصفة أو الصفات التى يجب أن تتهيأ له حتى يجودَ ويكونَ جديرًا بأن يقالَ له شعر. وقد حصَرها المرزوقى اللغوىُّ الكبير والناقدُ البصير فى سبعة أبواب أو عناصرَ هى: شرفُ المعنى وصحته، وجزالةُ اللفظ واستقامته، والإصابة فى الوصف، والمقاربة فى التشبيه - يعنى بين طرفيْه، والتحامُ أجزاء النظم، ومناسبةُ المستعار منه للمستعار له ، ومشاكلةُ اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية.
وبعد إجماله فصّل المرزوقى فى مسائل أترك الكلام فيها الآن لأن المقام لا يتّسع لها. لكنى أجده لازمًا أن أشير إلى تعقيبه على تلك التفصيلات. قال " . . . فهذه الخصال عمود الشعر عند العرب، فمن لزِمَها بحقها فهو عندهم المحسن المقدَّم، ومن لم يجمعها كلَّها فبقدْر سُهمته منها يكون نصيبه من التقدّم والإحسان". قال "وهذا إجماع مأخوذ به ومتّبع نهجُه حتى الآن". هذا القول يفْضى إلى نتيجة مهمة، أن ما أحدثه أبو تمام من فنّ جديد قيل فيه "إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل" - داخل فى عمود الشعر. وبهذا يتأكد الإجماع أكثر.
لم يخطر على بال المرزوقى وهو يعلن إجماعه أنه سيجئ بعد أكثرَ من ألف عام عربٌ - أجَلْ عربٌ -  يخرقون ذلك الإجماع خرقًا يبدو لاتساعه أنه مستعصٍ على الإصلاح. لدىّ مثالٌ شاهد على انعكاس الحال مبيّن لمبلغ اتساع الخرق، لكنْ قبل أن أسوقه إليكم - ولا بدّ من سَوْقه حتى يتضح على نحو محدّد مُرادى من هذه الكلمة - أقول: يطيبُ لى قبلُ أن أعلنَ أن الأستاذ أحمد حجازى أحد جماعةٍ تحترم عمود الشعر، وأن احترام عمود الشعر هو الفضيلة الأولى التى يُثْنَى بها على شعر أو شاعر. أما بمَ كان الأستاذ محترِمًا لعمود الشعر فهذا ما أنا بسبيلى إلى الكشف عنه. وهذا ما أوجب علىَّ التوقف لفحص كلامٍ يقال إنه شعر. قال قائل:



التقتْ أشجارُنا بالرجْم فارتفعت على الصندوق شاهدةً :
هنالك نارُنا السّفلى مغذّاةً بأكباد النوارسِ
خطوةٌ ويصير نحْر لصْق جثته
فماذا أدْهش الروحَ
اتفقنا والضفائرُ مثقلاتٌ بالنتائجِ
هل رقابُ المبدعين رهينةٌ ؟
تدنو إلى أحداقنا الكُوّات عادلةً :
تُهرِّب للخلاءات القريبة نارَنا العليا
وتنقبض انقباض الساترين
نوافذى مفتوحة.
وعقّب أستاذ جامعىّ على هذا ‘التصويت’ قائلًا:
"أعترفُ أن هذا المقطع استغلق تمامًا على ملكة التخيّل والفهم عندى . . . فالأسطر تبدو جُملًا منفصلةً منطلقاتٍ فى اتجاهات غيرِ متجاوبة، والصورُ كأنها حُمر مستنفرة ... فالمقطع كله دالّ على ما يمكن أن تصل إليه الكتابة التلقائية إذا تحوّلتْ إلى شطح يتباعد كل التباعد حتى عن هدفه الجمالىّ [قلتُ: كأن الجمال يمكن أن يكون هدفًا للشطح !] قال: "ونماذج هذا النوع من الشطح الجمالى تجسيد لأقصى الطرَف الذى تغدو فيه الحداثة مبتورةَ الصلة بالمنطق الداخلى (الشعورىّ أو اللاشعورىّ) اللازمِ لهذا النوع من الكتابة، وإلا انقطعت إمكانات اتصاله بالقارئ".
والسؤال الصعبُ الآن الذى لابد للأساتذة "الجامعيين" أن يواجهوه هو: ما الذى هيّأَ لهذا الشطح المقرر أن يكون "ممكنًا" أو "جائزًا" ؟! - وبعبارة أخرى - ما الصفة "الخاصة" بهذا الضرب من "التصويت" التى تجيز للناقد عند وجودها فيه أن يَعدّه معيبًا ؟ جوابى هو ما قال أبو بكر رضى الله عنه عندما عُرض عليه كلام ليرى فيه رأيه قاله نبىّ كذّاب. قال: "ويْحكم، أين يُذهبُ بكم، هذا كلامٌ لا يخرج من إلّ" - أى مِن عقل. كأن أبا بكر أراد أن يقول للعرب: إن القرآن على النقيض. أعملوا عقولكم تعرفوه. وكانوا مُهيئين للتجاوب مع هذا المطلب لأنهم كانوا أهلَ شعر، أعنى أهلَ عقل. للشعر عندهم شرط أولٌ، أو حدّ أولٌ، أو عمود أولٌ هو العقل. وهذا معنى أن علماءنا القُدامى أضافوا "المعنى" فى حدّ الشعر فقالوا كما أخبرنا المرزوقى "لفظٌ موزون مقفًّى يدل على معنى" - للغة شاطئان: فى أحدهما ما هو محسوس، أى الأصوات من حيث هى أصوات، وفى الآخر ما هو معقول، أى المعنى، صادرًا - لا جَرَمَ - عن الأصوات، متلبّسًا - لا جرم - بها.
وزَحفتْ قلةُ العقل من الشعر إلى النثر، وإلّا فما هذا الذى سماه الأستاذ الجامعىّ "شطحًا جماليًّا"!؟ قولوا معى إنه كلام لا يخرج من إلّ. كلامٌ يؤلِّف بين أشياءَ لا تأتلف. وهو منهج كثيرٍ من الشعراء الآن. وأترك التمثيل تجنبًا للإطالة.
لكنى أراه مفيدًا قبل أن أختم هذه الكلمةَ أن أربط آخرها وأولها. عمود الشعر مصطلح قابل للتوسعة، فهو يصدق على الشعر صدقَه على النثر، بمعنى ما. وهو كما يصدق على الوِجدان الفردى يصدق أيضًا على الوجدان الجماعى، أى على الأمة من حيث هى كينونة سياسية متميزة بلغة خاصة وأخلاق خاصة  وآمال خاصة تتعلق - ولو أحيانًا - بأهداف واحدة. والمسألة - أو المسائل - اللغوية إذَنْ ليست بعيدةً عن المسألة - أو المسائل - السياسية. مطلوب من الشاعر أن يعرف مهمته فى هذه الدنيا الصعبة. وإذا رأى "العامَّ" فلا ينبغى له أن يستمرئ الإقامة هناك، بل عليه أن ينزل من عليائه ليرى صعوبات الدنيا على حقائقها. أو - بعبارة المتنبى - أن يعرف الأيام والناس. أو - فى كلمة واحدة - أن يَعقل. وهذا هو الدرس القديم والعظيم الذى علَّمنا إياه الشنفرَى:



لَعمرُكَ ما فى الأرض ضيقٌ على امرئٍ سرى راغبًا أو راهبًا وهْو يَعقلُ



ولدينا كذلك درس آخر عظيمٌ، لكنه حديثٌ، نتعلمه من أحمد حجازى، الذى لا شك عندى فى أنه يَعقل. والدليل عندى، وينبغى أن يكون عند غيرى كذلك، أنه محترِمٌ لعمود الشعر. أَبَى أن ينقاد للموجة الجارفة التى انحرفت بالشعر الحديث انحرافة مؤذيةً للشعر، مؤذيةً للعقل العربى، مؤذيةً للوجود السياسىّ العربىّ كلِّه، ولم يُزعجه الإزراءُ بما سُمّى "العقلانية" إعلاءً لما سُمّى حينًا بالرؤية الماركسية وحينًا بالرؤية السيريالية، وحينًا بالكتابة التِّلقائية، إلى غير ذلكمْ من أسماء ودعاوَى ما أنزل الله بها من سلطان.
واضحٌ - على الأقل عندى - أن الشعر العربى فى مأزِق، وأن اللغة العربيةَ فى مأزِق، وأن السياسة العربية فى مأزِق، وأن هذا كلَّه قريبٌ من قريب. ولقد خبَر أحمد حجازى هذه المآزق كلَّها، شعرُه دال على الخبرة المتنوعة، ونثرُه كذلك دالّ. بل ربما كان النثر أحيانًا أدلّ. وهو إذَنْ مُهيَّؤٌ لأن يتابع مسيرته وأن يجيئنا بما هو أجْدى وأنفع. وإن كان خُدع مرةً، كما قال، فإن لديه من الحصافة ما ينأى به عن أن يُخدعَ مرةً أخرى، وقاه الله الزلل، ومدَّ فى عمره، ومتعه بالصحة والعافية.

الحسانى حسن عبدالله