أحمد حجازى وثورةُ يوليو
الشعر صعب. وبعض صعوبته أن الشاعر لا يمكنه
أن ينظم إلا إذا كان صاحب هم. والهموم أنواع كما أبلغنا قديمًا امرؤ القيس. ومن
أشدِّها ما يتعلق بالأمة حين تنتابها النوائب وتطلب ما يشدُّ أزرَها فى مواجهتها
فلا تجد. وذلك عند الشاعر الشاعرِ الهمُّ الأكبر. يريد الشاعر أن يكون فعَّالًا
مقدامًا، ويريد لأمته-وخصوصًا فى وقت المحن- أن تكون كذلك جسورة لا تبالى الخطر
حين يجد الجِدُّ. وهو يستاء جدًّا إذا أمَّلَ ولم يجد عُقبى تأميله إلا الخَور
والقعودَ والنكوص. فما بالك إذا كان الأمل طويلًا عريضًا ناشرًا جناحيه بين السماء
والأرض وكانت عقباه خيبةً بحجم هزيمتنا في خامس يونيو عام سبعة وستين؟ تلك
الهزيمةُ الساحقة الماحقة التى ما يزال أثرها قائمًا فينا حتى اليوم؟!
كان مما قُدِّر لأحمد حجازى أن يشهد ذلك
الزلزال العظيم. وأن يرتجَّ ارتجاجًا كان يمكن -لولا لطف الله به- أن يقضى عليه.
أسعفه الشعر. وتلك مزيّةٌ من مزايا ذلك الفن الخالد، أن يكون معينًا للناس فى زمن
المحن، ولو إلى حدًّ ما.
ما الذي جرى فى ذلك اليوم على التحقيق؟ وسؤال
لا يقل صعوبة، وما الذى جرى كذلك على التحقيق سنة اثنتين وخمسين بشأن ما سُمِّى
بثورة يوليو؟ لا جواب. أليس هذا بعجيب ؟ أجلْ، إنه لعجيب بلا ريب. كيف يجوز لأمة
أن تبقى جاهلةً تاريخَها أكثر من نصف قرن، لا تدرى عنه إلا قشورًا لا غَناء فيها؟
ولا تقلْ إنى أسرفت لمَّا قطعتُ بانتفاء الجواب. لدىَّ دليل لا يُدفع. وهو قريب.
فما عليك لتستوثق من صحة زعمى إلا أن ترجع إلى صيحفة كالأهرام وتنظر فيما كتبه
المتخصصون فى شئون السياسة من كُتَّابها بمناسبة ذكرى يونيو وذكرى يوليو مفتشًا عن
نقطة ضوء تعينك على فهم ما جرى في حقائقه لا فى قشوره، فإنك لن تجد ما يكفى أو
يشفى، بل ستجد أحيانًا إقرارًا صريحًا بأن ما جرى فى تلك الحقبة كلها لغز ضخم.
وكان أحمد حجازى أسبق فى الإقرار. في
"مرثيَة للعمر الجميل" نصٌّ صريحٌ على التَّيَهان وضياع الدليل.
وهنا أعود إلى كلمة سابقة عن "أحمد
حجازى" وعمود الشعر، رأى فيها بعض الناس لشدة إيجازها شيئًا من الغموض. ذكرتُ
في بدايتها أن السفير الأمريكى "كافرى" كان في وداع "فاروق"
في رحلته الأخيرة عن مصر مجبرًا على التخلّى عن العرش. قيل لى ما الذى قصدته بهذه
الإشارة؟
قلتُ: ما قصدتُه واضح؛ التنبيهُ إلى
العِلَّة، ثم إلى ما بعدها من نتائجَ بطبيعة الحال. لماذا كان "كافرى"
هناك ؟ لماذا ذهب إلى "فاروقٍ" يقنعه بألا يقاوم وأن يرحل في سلام؟
ليس عبثًا بطبيعة الحال! لم يكن "كافرى"
"فاعلَ خير" كما نقول في عامِّيتنا. وإنما كان رسول دولة أجنبية، رسولَ
القوة الأمريكية المتصدِّية لحكم العالم، والتي لها بطبيعة الحال "مآرب
خاصة" في حكم العالم العربي خصوصًا ودفعه إلى حيث تريد.
قلتُ في تلك الكلمة السابقة إن أحمد حجازى
كان غلامًا في ذلك الوقت. لهذا فالأرجح أنه لم يلحظ أن "كافرى" كان فى
وداع الملك، ولو أنه كان لَحَظَ فقد كان من العسير عليه إدراك الدلالة. كان الأفق
يلمؤه غبش. وأقول الآن إن الغبش القديم تكاثف الآن حتى منع كتاب
"الأهرام" -وهم صفوة- أن يجدوا ولو نقطةَ ضوء واحدةً تنير لهم السبيل
إلى الفهم. وهاكم مثلًا واحدًا. فى كلمة جعل عنوانَها "نكسةُ يونيو بعد نصف
قرن" قال مصطفى الفقى إن ما سماه "نكسةَ يونيو" ما زال جاثمًا على
صدرونا، وفي محاولة للتفسير زعم أن عبدالناصر استُدرج إلى الحرب كيدًا له ولنا
لضرب ما سماه "المشروعَ القومىَّ" الذي "يقوده" ولضرب مشروع
آخرَ سماه "المشروعَ المصرىَّ النهضوىَّ" الذى تعرَّض لضربات سابقة في
أزمنة مختلفة. وكأن إسرائيل كانت واثقةً كل الثقة من نجاح ضربتها وإصابة
المشروعيْن في مقتل. وكأنه ليس من الوارد - حتى عقلًا - أن تُهزم إسرائيل! وواضحٌ
أن هذا التعليل عامٌّ شديد العموم، وأن الذى نحن في حاجة إليه هو
"الخاص" شديدُ الخصوص، الذى يكشف لنا فى جلاء علاقة الولايات المتحدة
بما جرى ذلك العام، وقبل ذلك العام، وبعد ذلك العام حتى الآن، وربما إلى ما بعد.
ليس من غرض هذه الكلمة الفحصُ التاريخىُّ عن
تلك المسألة العسيرة، وإنما غرضُها الأول كيفيةُ مواجهة الشاعر لها، هذه الكيفية
جزء لا يتجزأ من نسيج شعره المنظوم فى عبدالناصر. ولا يمكن للناقد أن يوفى هذا الشعر
حقه من الدرس بغير التوقف المتمعِّن عند فهم الشاعر للأحداث. إن هذا الفهم هو
الفاعل الأول فى إحساسه بتلك الأحداث وفي صوغ الصور المختلفة التى جادت بها قريحته
تعبيرًا عنها. الفهم إذَنْ لازم، وإن كان على نحو مختلف عما هو لازم للدرس
التاريخىِّ. ولكن أحمد حجازى كاتب إلى جانب كونه شاعرًا. ونحن إذا أردنا تقويم
شعره في عبدالناصر فنحن مضطرون إلى النظر فى فكره المجرد، أى بعيدًا عما يكشف عنه
الشعر. أو فلنقل فى فكره النثرىِّ. أحمد حجازى كاتب سياسىٌّ يكاد يكون محترفًا.
فماذا تقول لنا مقالاته السياسية بشأن ثورة يوليو؟! يعلم المتتبع لها علمًا شديد
الوضوح أنه منكرٌ لها، ناقد، لائم، وربما وجدناه أحيانًا مزريًا بها حانقًا عليها.
وهنا كأن ملامح مأساةٍ ترتسم أمامنا. الوجدانُ فى طرف والعقل فى طرف، أو لنقل
الشعر فى طرف والنثر فى طرف، وبين النقيضيْن رجل قُدِّر له أن يحار، أن يتيه، أن
يضيع، كما تنبؤنا قصيدتُه "مرثيَة للعمر الجميل". في كلمتى السابقة عن
عمود الشعر قلتُ تعقيبًا على عنوان القصيدة إنه يريد بالعمر الجميل العهدَ الذى
هنئَ فيه بالأمانىِّ الأثيرة والأحلام التى زخرفتها ثقة لا حدَّ لها بالزعيم.
وأريد الآن أن أتابع ذلك التعقيب إيضاحًا لملامح ما سميتُه بالمأساة.
يقول الشاعر: إنني قد تبعتك من أول الحُلْم ... ورحلتُ وراءك
من مستحيل إلى مستحيل ...
كنت أمشى وراء دمى ... آه هل يَخدع الدم
صاحبهُ ... هل تكون الدماء التى عشقتك حراما؟!
وفي موضعٍ آخرَ يقول:
صاح
بى صائح: لا تصدِّقْ ... ولكننى كنتُ أضرب أوتار قيثارتى، باحثًا عن قَرارة صوتٍ
قديم.
ويقول في موضع ثالث:
آه يا سيِّدى ... كم عطشنا إلى زمن يأخذ
القلب
قلنا لك اصنعْ كما تشتهى
وأعدْ للمدينة لؤلوة العدل لؤلؤةَ المستحيل
الفريدة
صاح بى صائح لا تبايعْ
ولكننى كنتُ أضرب أوتار قيثارتى باحثًا عن قرارة
صوت قديم
لم أكنْ أتحدث عن مَلك
كنتُ أبحث عن رجلٍ أَخبر القلبُ أن قيامته
أوشكتْ
كيف أعرف أن الذى بايعتْه المدينةُ ليس الذى وعدتْنا السماءْ ؟!
كيف أعرف أن الذى بايعتْه المدينةُ ليس الذى وعدتْنا السماءْ ؟!
قلتُ إنها "ملامح" لكنى أقول الآن
إنها مأساة واضحة المعالم، كاملة الأركان. أمة تبحث عن رجل لا عن مَلِك، ولما
جاءها الرجل المنشود إذا به خِلقةٌ حجريةٌ، لا صلةَ بينه وبين المنتظر المرجوّ.
حسِبْنا أن السماء استجابت لكنها شاءت أن تفجعنا فى الأمل المنشود. وها نحن الآن
بعد أكثرَ من نصف قرن -شعراءَ وغيرَ شعراء- ننظر من حولنا فلا نجد إلا الغبش،
وإلا نخبةً مضطربةً ضعيفةً لا تقوى على شىء
ولا يحفزِها شىء إلى طلب القوة.
أعان الله شاعرنا على الصبر، وكما دعوتُ له
فى الكلمة السابقة أدعو له مرةً أخرى في ختام هذه الكلمة، مدَّ الله فى عمره
ومتَّعه بالصحة والعافية.