فاروق شوشة وأنا
المتأمِّل في
المشهد الشعرىِّ المعاصر في نصف القرن الماضي، وربما فيما قبْله أيضًا، لا يصعب
عليه أن يدرك أن فى ذلك المشهد مسألةً، أو قلْ مشكلةً، أو قلْ معضلةً، شديدةَ
التعقُّد، وأنها هى بعَيْنها مسألةُ الأمة الموصوفة بأنها عربيةٌ، أو مشكلتُها، أو
معضلتُها، تلك الأمةُ التي تقول الجغرافيا إنها ممتدةٌ من المحيط إلى الخليج،
وتقولُ حقائقُ اللغة، وحقائقُ السياسة، وحقائق التاريخ، إن ذلك الامتدادَ المحسوسَ
كِذْبةٌ كبرى، وإنَّ شهادة الحسِّ هنا باطلة.
ولا يملِكُ ذلك
المتأمِّلُ عندما يمعنُ التحديق فى المشهديْن الشعرىِّ والسياسىِّ إلا أن يجد نفسه
فى محاولته الفهمَ خائضًا أو سابحًا في بحر الفلسفة، لأن الشعرَ في تلك الحقبةِ
غيرِ القصيرة يبدو عاجزًا عن أن يخبرَه بشىء. وهو إذن مضطرٌّ أن يطلبَ العونَ من
جهةٍ أخرى، أو جهاتٍ، أرى أنه يصدق عليها -على ما بينها من فروق- أن تُسمَّى
"فلسفة". وأزعمُ أنَّ الخائضَ أو السابحَ في الفلسفة واجدٌ بعد بَذْلِ
أقصى الجهد أنها كذلك لا تخبرُه بشىء. وتلك ،كما يقول شكسبير، هى المسألةُ، أو
المشكلةُ، أو المعضلةُ، أو "الحيرة" كما اختار العقاد أن يترجم كلمة “question”.
أقولُ هذا بعد أن
عكفتُ طَوالَ الأسبوع الماضى على قراءة فاروق شوشة لرغبة كريمة من الأخ الكريم
السمَّاح عبدالله الأنور أن أقول شيئًا فى ذكرى الراحل العزيز، رحمة الله عليه.
فماذا أنا قائلٌ
فى ذلك الديوان الضخم؟
صالَ وجالَ فاروق
شوشة، كما صالَ غيرُه وجال. وكان الميدان فسيحًا لديه، فساحتَه عند غيره بطبيعة
الحال. والذى يتابع فاروق شوشه في صوْله وجوْله يجد فى وضوح أنه كان يطمحُ إلى أن
يكون شاعرًا صادقًا فى رؤيته الواقعَ المحيطَ به، وفى رؤيته فوق ذلك حقائقَ
الأشياء على وجه العموم، أن يكون نفَّاذًا أو كشَّافًا للخفىِّ البعيد، كما هو
المرجوُّ من كلِّ شاعرٍ جديرٍ بهذه الصفة، ولهذا غصَّ شعرُه بكثير من الحزن والضيق
والحنق، والألم المستكنِّ، والثورةِ المكتومةِ معظمَ الأحيان، والمعلنة بعضَ
الأحيان.
وسيجد ذلك
المتقرِّى للديوان الضخم أنه كان طامحًا لا إلى أن يكون مجرد ناظمٍ، بلْ إلى أن
يكون صاحبَ فكرةٍ عن الشعر، منزلتِه، ورسالتِه أو وظيفتِه، وحالتِه فى هذا العصر
الحديث، وخصوصًا في الحقبة الأخيرة. وأزعمُ أننا محتاجون جدًّا في مراجعتنا للمشهد
الشعرىِّ، والمشهدِ السياسىِّ، والمشهد الفلسفىِّ كذلك، إن صحَّ التعبير، أن نتعرف
رأيَه فى الشعر، أو فى مولاه الشعر كما سمَّاه، وأنْ نناقشَه الآن كما كنَّا نناقشه
من قبل، مطمئنِّين إلى ما يتحلَّى به من سعة صدرٍ ورحابة أفق، لأن هذه المناقشة هى
-عندى- جزءٌ لا يتجزَّأ من ذِكره أو ذكراه، ومحقٌّ كلَّ الحقِّ من يزعم أن الميت
لم يمتْ، وأن الذى غاب مادةٌ ككلِّ مادة أنشأها الله لتحملَ القبس مدةً ثم تفنى
ليبقى هو بمعنىً ما أو على نحو ما، أما الذين تعجبهم فكرة العدمِ المطلقِ -ومنهم
عباقرةٌ واأسفا- فقد ظلموا أنفسهم وخانوا ما وُهبوا من ذكاء.
قال فى مقدمة
كتابه "في حضرة مولاى الشعر" : "المؤمنون بالشعر فى هذا الزمان
العبثىِّ هم المؤمنون بالإنسان، وبالوجدان، وبالمعرفة، وبالفضاء الذى يتَّسع
لإبداعاتٍ شتَّى، تتكامل وتتناغم، فى ظل سعينا الدائم لمزيد من الحرية والتحرر،
ومزيدٍ من التنوير والتقدم، ومزيد من الكرامة والكبرياء".
وأريد أن أتابع
معكم هذه الفقرة معقبًا عليها عبارةً عبارةً في محاولة للفهم. قال: "المؤمنون
بالشعر ..." وهو أحدهم بطبيعة الحال . ثم قال: "فى هذا الزمان العبثىِّ
..." ونحن إذَنْ نحيا مع العبث أو يحيا معنا العبث. ثم جاء بالخبر قائلًا:
"همُ المؤمنون بالإنسان". قلتُ: هذه كلمة عامةٌ جدًّا، توشك عندى من شدة
العموم أن تفقد معناها. ثم عَطَفَ قائلًا: "وبالوجدان". قلتُ: قبْل ما
يقرب من قرن هتف عبدالرحمن شكرى:
ألا يا طائرَ
الفردوسِ إن الشعرَ وِجدانُ
ولم نحصلْ من هتافه
هذا إلا على كلمة شبيهةٍ بكلمة الإنسان فى عمومها الشديد الذى يقول ولا يقول. ثم
عَطَفَ مرةً أخرى قائلًا: "وبالمعرفة". قلتُ: عَلِمَ هو وعَلِمَ معه
الجيلُ كلُّه -كما قال فى المقدمة نفسها- إن "المعرفة" عندنا تضاءلتْ.
قال: "بعد أن تخلخلت العلاقةُ بين القصيدة والمتلقِّى، وانهار مستوى اللغة
العربية فى التعليم أولًا ، وعلى ألسنة الناس وأقلامهم ثانيًا. وأخيرًا قال:
"وبالفضاء الذى يتَّسع لإبداعاتٍ شتَّى (تتكامل وتتناغم) في ظل سعينا الدائم
لمزيد من الحرية والتحرر، ومزيدٍ من التنوير والتقدم، ومزيد من الكرامة
والكبرياء". قلتُ: اتَّسع الفضاء، وصار مدَّعو الشعر، ومدَّعو نقده، عددَ الرمل
والحصى. ولكنْ أين ما سمَّاه "التكامل والتناغم"؟! أمَّا سعينا
الدائمُ لمزيد من التحرر فكأنه سعىٌ دائمٌ
إلى مزيد من الهوان. وأمَّا ما سمَّاه "التنوير" أو "التقدم"
فمعنىً استعرناه من ثقافة الغرب لنثرثر
حوله كلما وجدنا فرصة للثرثرة. وأمَّا "الكرامة" أو
"الكبرياء" فمعنًى لا يزال ممرَّغًا فى التراب منذ أن داست عليه خيلُ
نابليون. ومنذ أن أصدر البابُ العالى، أى الذى كان عاليًا، فَرَمانَه القاضىَ بأن
يتولَّى محمد على حكم مصرَ طَوال حياته، وأن يتولَّاه بعد وفاته أبناؤه وأحفاده،
طاعةً لأوامر الدول الغربية المتحكِّمة فى مصائرنا هى وملوكُها المعيَّنون ملوكًا
علينا وهم أجنَّة فى أرحام أمهاتهم. وقبلْنا يا فاروق، واأسفا!
فماذا بقىَ للشعر
أو الشاعرِ فى هذا الزمان الذى وصَفَه فقيدُنا العزيزُ علىَّ جدًّا بأنه
"عبثىٌّ"؟ أظن أن الجواب
الواضح، الحاسمَ، الفورىَّ، هو: لا شىء. أَجَلْ، هذا واقعٌ يصعبُ جدًّا أن ينتجَ
شاعرًا بحق.
ومع هذا فقد جاهد فاروق
شوشة وسطَ هذا العبثِ العارمِ لأجْل أن يقول الشعر- وأظن أنه وجد فى وطْبه أو
سقائه شيئًا. ولو صحَّ ظنِّى فإن هذا القَدْرَ كافٍ لإبقائه شيئًا مذكورًا في
تاريخ الشعر العربىِّ. لقد كان مثابرًا، وبذل جهدًا جهيدًا لأجل الشعر، تأمُّلًا
ونظْمًا ودرسًا، واحتراماً لعمود الشعر بالمعنى الذى نسبْتُه من قبلُ لأحمد حجازى
وطائفةٍ من أصحاب الشعر الحر الحرصاء على أن يبقى الشعر كلامًا يُعقل قبلَ كلِّ
شىء.
والآن، آن لهذه
الكلمة أن تُختم. وينبغي لختامها أن يعود بنا إلى بدئها. قلنا إن الإخفاق تعدّد.
أخفقت السياسة، وأخفق الشعر، وأخفقت الفلسفة.والآن، ما السبيل بعد كلِّ هذه
الإخفاقات؟ ما الحل؟ أو كيف الخلاص؟ هذا هو السؤال الذى يتعيَّن على الأمة كلِّها،
ساسةً، وشعراءَ، وفلاسفةً، أن تشعر بالحاجة إلى وضْعه، وبلزوم الجواب عليه. وأن
يكون الجواب عملًا يُعمل، لا مجرد كلامٍ يقال. نحن في مأزِقٍ خطِر، وأخطر ما فيه
أننا نبدو غير مدركين أننا في مأزِق، وأنه خطِر.
ثم بقىَ شىءٌ.
العنوانُ، "فاروق شوشه وأنا". هذا هو ما خطر لى أولًا، أن تكون الكلمة
سردًا لقصة صداقتي بالراحل الكريم العزيز، لكنْ شاء الله لها أن تسير على نحو ما
رأيتم أو سمعتم. والذى أُريدَ هو الخيرُ بلا ريب. فإن الانشغال بالهم العام هو
عندى يكاد يكون فرضَ عين للقادر عليه لا فرضَ كفايةٍ إذا استعملنا لغة الفقه أو
الفقهاء. وإنْ فاتني الغرض الأول فيكفينى وفاءً به أن أقول إنى وجدتُ فى فاروق شوشة
أخًا كريمًا بحق. وإنه لذو فضل علىَّ سأظل أذكرُه ما حييت. رحمة الله عليه، وغفر
الله له.
الحسانى حسن عبدالله