الخميس، 7 ديسمبر 2017

إهداء ديوان من وحي الوافر

                 إهداء

إلى عارِفىَّ، لِعرفانهمْ، هديةَ مُغتبِطٍ يَشكرُ
إلى مُنكرىَّ الأُلَى أَظْهَروا، ومُستنكرىَّ الأُلَى أَضْمَروا
هديةَ مَن لم يزلْ آملًا برغْمِ الدّياجيرِ أن يُبْصروا
إلى هؤلا وأُلاءِ سواءً كتابى، وحُيِّيتَ يا مُبْحرُ
قَصَدْنا الأَواذِىَّ هدَّارةً، فما راعَنَا ثَبَجٌ يَهْدِرُ
فإنْ كنتَ ذا قُدرةٍ فاصْحبَنَّا، وإلّا ففسِّحْ لمنْ يَقْدِرُ


الإهداء الذى صُدّر به ديوان "من وحى الوافر وقصائد أخرى

فاروق شوشة وأنا



فاروق شوشة وأنا

المتأمِّل في المشهد الشعرىِّ المعاصر في نصف القرن الماضي، وربما فيما قبْله أيضًا، لا يصعب عليه أن يدرك أن فى ذلك المشهد مسألةً، أو قلْ مشكلةً، أو قلْ معضلةً، شديدةَ التعقُّد، وأنها هى بعَيْنها مسألةُ الأمة الموصوفة بأنها عربيةٌ، أو مشكلتُها، أو معضلتُها، تلك الأمةُ التي تقول الجغرافيا إنها ممتدةٌ من المحيط إلى الخليج، وتقولُ حقائقُ اللغة، وحقائقُ السياسة، وحقائق التاريخ، إن ذلك الامتدادَ المحسوسَ كِذْبةٌ كبرى، وإنَّ شهادة الحسِّ هنا باطلة.
ولا يملِكُ ذلك المتأمِّلُ عندما يمعنُ التحديق فى المشهديْن الشعرىِّ والسياسىِّ إلا أن يجد نفسه فى محاولته الفهمَ خائضًا أو سابحًا في بحر الفلسفة، لأن الشعرَ في تلك الحقبةِ غيرِ القصيرة يبدو عاجزًا عن أن يخبرَه بشىء. وهو إذن مضطرٌّ أن يطلبَ العونَ من جهةٍ أخرى، أو جهاتٍ، أرى أنه يصدق عليها -على ما بينها من فروق- أن تُسمَّى "فلسفة". وأزعمُ أنَّ الخائضَ أو السابحَ في الفلسفة واجدٌ بعد بَذْلِ أقصى الجهد أنها كذلك لا تخبرُه بشىء. وتلك ،كما يقول شكسبير، هى المسألةُ، أو المشكلةُ، أو المعضلةُ، أو "الحيرة" كما اختار العقاد أن يترجم كلمة  “question”.
أقولُ هذا بعد أن عكفتُ طَوالَ الأسبوع الماضى على قراءة فاروق شوشة لرغبة كريمة من الأخ الكريم السمَّاح عبدالله الأنور أن أقول شيئًا فى ذكرى الراحل العزيز، رحمة الله عليه.
فماذا أنا قائلٌ فى ذلك الديوان الضخم؟
صالَ وجالَ فاروق شوشة، كما صالَ غيرُه وجال. وكان الميدان فسيحًا لديه، فساحتَه عند غيره بطبيعة الحال. والذى يتابع فاروق شوشه في صوْله وجوْله يجد فى وضوح أنه كان يطمحُ إلى أن يكون شاعرًا صادقًا فى رؤيته الواقعَ المحيطَ به، وفى رؤيته فوق ذلك حقائقَ الأشياء على وجه العموم، أن يكون نفَّاذًا أو كشَّافًا للخفىِّ البعيد، كما هو المرجوُّ من كلِّ شاعرٍ جديرٍ بهذه الصفة، ولهذا غصَّ شعرُه بكثير من الحزن والضيق والحنق، والألم المستكنِّ، والثورةِ المكتومةِ معظمَ الأحيان، والمعلنة بعضَ الأحيان.
وسيجد ذلك المتقرِّى للديوان الضخم أنه كان طامحًا لا إلى أن يكون مجرد ناظمٍ، بلْ إلى أن يكون صاحبَ فكرةٍ عن الشعر، منزلتِه، ورسالتِه أو وظيفتِه، وحالتِه فى هذا العصر الحديث، وخصوصًا في الحقبة الأخيرة. وأزعمُ أننا محتاجون جدًّا في مراجعتنا للمشهد الشعرىِّ، والمشهدِ السياسىِّ، والمشهد الفلسفىِّ كذلك، إن صحَّ التعبير، أن نتعرف رأيَه فى الشعر، أو فى مولاه الشعر كما سمَّاه، وأنْ نناقشَه الآن كما كنَّا نناقشه من قبل، مطمئنِّين إلى ما يتحلَّى به من سعة صدرٍ ورحابة أفق، لأن هذه المناقشة هى -عندى- جزءٌ لا يتجزَّأ من ذِكره أو ذكراه، ومحقٌّ كلَّ الحقِّ من يزعم أن الميت لم يمتْ، وأن الذى غاب مادةٌ ككلِّ مادة أنشأها الله لتحملَ القبس مدةً ثم تفنى ليبقى هو بمعنىً ما أو على نحو ما، أما الذين تعجبهم فكرة العدمِ المطلقِ -ومنهم عباقرةٌ واأسفا- فقد ظلموا أنفسهم وخانوا ما وُهبوا من ذكاء.
قال فى مقدمة كتابه "في حضرة مولاى الشعر" : "المؤمنون بالشعر فى هذا الزمان العبثىِّ هم المؤمنون بالإنسان، وبالوجدان، وبالمعرفة، وبالفضاء الذى يتَّسع لإبداعاتٍ شتَّى، تتكامل وتتناغم، فى ظل سعينا الدائم لمزيد من الحرية والتحرر، ومزيدٍ من التنوير والتقدم، ومزيد من الكرامة والكبرياء".
وأريد أن أتابع معكم هذه الفقرة معقبًا عليها عبارةً عبارةً في محاولة للفهم. قال: "المؤمنون بالشعر ..." وهو أحدهم بطبيعة الحال . ثم قال: "فى هذا الزمان العبثىِّ ..." ونحن إذَنْ نحيا مع العبث أو يحيا معنا العبث. ثم جاء بالخبر قائلًا: "همُ المؤمنون بالإنسان". قلتُ: هذه كلمة عامةٌ جدًّا، توشك عندى من شدة العموم أن تفقد معناها. ثم عَطَفَ قائلًا: "وبالوجدان". قلتُ: قبْل ما يقرب من قرن هتف عبدالرحمن شكرى:
ألا يا طائرَ الفردوسِ إن الشعرَ وِجدانُ
ولم نحصلْ من هتافه هذا إلا على كلمة شبيهةٍ بكلمة الإنسان فى عمومها الشديد الذى يقول ولا يقول. ثم عَطَفَ مرةً أخرى قائلًا: "وبالمعرفة". قلتُ: عَلِمَ هو وعَلِمَ معه الجيلُ كلُّه -كما قال فى المقدمة نفسها- إن "المعرفة" عندنا تضاءلتْ. قال: "بعد أن تخلخلت العلاقةُ بين القصيدة والمتلقِّى، وانهار مستوى اللغة العربية فى التعليم أولًا ، وعلى ألسنة الناس وأقلامهم ثانيًا. وأخيرًا قال: "وبالفضاء الذى يتَّسع لإبداعاتٍ شتَّى (تتكامل وتتناغم) في ظل سعينا الدائم لمزيد من الحرية والتحرر، ومزيدٍ من التنوير والتقدم، ومزيد من الكرامة والكبرياء". قلتُ: اتَّسع الفضاء، وصار مدَّعو الشعر، ومدَّعو نقده، عددَ الرمل والحصى. ولكنْ أين ما سمَّاه "التكامل والتناغم"؟! أمَّا سعينا الدائمُ  لمزيد من التحرر فكأنه سعىٌ دائمٌ إلى مزيد من الهوان. وأمَّا ما سمَّاه "التنوير" أو "التقدم" فمعنىً استعرناه  من ثقافة الغرب لنثرثر حوله كلما وجدنا فرصة للثرثرة. وأمَّا "الكرامة" أو "الكبرياء" فمعنًى لا يزال ممرَّغًا فى التراب منذ أن داست عليه خيلُ نابليون. ومنذ أن أصدر البابُ العالى، أى الذى كان عاليًا، فَرَمانَه القاضىَ بأن يتولَّى محمد على حكم مصرَ طَوال حياته، وأن يتولَّاه بعد وفاته أبناؤه وأحفاده، طاعةً لأوامر الدول الغربية المتحكِّمة فى مصائرنا هى وملوكُها المعيَّنون ملوكًا علينا وهم أجنَّة فى أرحام أمهاتهم. وقبلْنا يا فاروق، واأسفا!
فماذا بقىَ للشعر أو الشاعرِ فى هذا الزمان الذى وصَفَه فقيدُنا العزيزُ علىَّ جدًّا بأنه "عبثىٌّ"؟  أظن أن الجواب الواضح، الحاسمَ، الفورىَّ، هو: لا شىء. أَجَلْ، هذا واقعٌ يصعبُ جدًّا أن ينتجَ شاعرًا بحق.
ومع هذا فقد جاهد فاروق شوشة وسطَ هذا العبثِ العارمِ لأجْل أن يقول الشعر- وأظن أنه وجد فى وطْبه أو سقائه شيئًا. ولو صحَّ ظنِّى فإن هذا القَدْرَ كافٍ لإبقائه شيئًا مذكورًا في تاريخ الشعر العربىِّ. لقد كان مثابرًا، وبذل جهدًا جهيدًا لأجل الشعر، تأمُّلًا ونظْمًا ودرسًا، واحتراماً لعمود الشعر بالمعنى الذى نسبْتُه من قبلُ لأحمد حجازى وطائفةٍ من أصحاب الشعر الحر الحرصاء على أن يبقى الشعر كلامًا يُعقل قبلَ كلِّ شىء.
والآن، آن لهذه الكلمة أن تُختم. وينبغي لختامها أن يعود بنا إلى بدئها. قلنا إن الإخفاق تعدّد. أخفقت السياسة، وأخفق الشعر، وأخفقت الفلسفة.والآن، ما السبيل بعد كلِّ هذه الإخفاقات؟ ما الحل؟ أو كيف الخلاص؟ هذا هو السؤال الذى يتعيَّن على الأمة كلِّها، ساسةً، وشعراءَ، وفلاسفةً، أن تشعر بالحاجة إلى وضْعه، وبلزوم الجواب عليه. وأن يكون الجواب عملًا يُعمل، لا مجرد كلامٍ يقال. نحن في مأزِقٍ خطِر، وأخطر ما فيه أننا نبدو غير مدركين أننا في مأزِق، وأنه خطِر.
ثم بقىَ شىءٌ. العنوانُ، "فاروق شوشه وأنا". هذا هو ما خطر لى أولًا، أن تكون الكلمة سردًا لقصة صداقتي بالراحل الكريم العزيز، لكنْ شاء الله لها أن تسير على نحو ما رأيتم أو سمعتم. والذى أُريدَ هو الخيرُ بلا ريب. فإن الانشغال بالهم العام هو عندى يكاد يكون فرضَ عين للقادر عليه لا فرضَ كفايةٍ إذا استعملنا لغة الفقه أو الفقهاء. وإنْ فاتني الغرض الأول فيكفينى وفاءً به أن أقول إنى وجدتُ فى فاروق شوشة أخًا كريمًا بحق. وإنه لذو فضل علىَّ سأظل أذكرُه ما حييت. رحمة الله عليه، وغفر الله له.



الحسانى حسن عبدالله

الاثنين، 20 نوفمبر 2017

أحمد حجازى وثورةُ يوليو






أحمد حجازى وثورةُ يوليو



الشعر صعب. وبعض صعوبته أن الشاعر لا يمكنه أن ينظم إلا إذا كان صاحب هم. والهموم أنواع كما أبلغنا قديمًا امرؤ القيس. ومن أشدِّها ما يتعلق بالأمة حين تنتابها النوائب وتطلب ما يشدُّ أزرَها فى مواجهتها فلا تجد. وذلك عند الشاعر الشاعرِ الهمُّ الأكبر. يريد الشاعر أن يكون فعَّالًا مقدامًا، ويريد لأمته-وخصوصًا فى وقت المحن- أن تكون كذلك جسورة لا تبالى الخطر حين يجد الجِدُّ. وهو يستاء جدًّا إذا أمَّلَ ولم يجد عُقبى تأميله إلا الخَور والقعودَ والنكوص. فما بالك إذا كان الأمل طويلًا عريضًا ناشرًا جناحيه بين السماء والأرض وكانت عقباه خيبةً بحجم هزيمتنا في خامس يونيو عام سبعة وستين؟ تلك الهزيمةُ الساحقة الماحقة التى ما يزال أثرها قائمًا فينا حتى اليوم؟!
كان مما قُدِّر لأحمد حجازى أن يشهد ذلك الزلزال العظيم. وأن يرتجَّ ارتجاجًا كان يمكن -لولا لطف الله به- أن يقضى عليه. أسعفه الشعر. وتلك مزيّةٌ من مزايا ذلك الفن الخالد، أن يكون معينًا للناس فى زمن المحن، ولو إلى حدًّ ما.
ما الذي جرى فى ذلك اليوم على التحقيق؟ وسؤال لا يقل صعوبة، وما الذى جرى كذلك على التحقيق سنة اثنتين وخمسين بشأن ما سُمِّى بثورة يوليو؟ لا جواب. أليس هذا بعجيب ؟ أجلْ، إنه لعجيب بلا ريب. كيف يجوز لأمة أن تبقى جاهلةً تاريخَها أكثر من نصف قرن، لا تدرى عنه إلا قشورًا لا غَناء فيها؟ ولا تقلْ إنى أسرفت لمَّا قطعتُ بانتفاء الجواب. لدىَّ دليل لا يُدفع. وهو قريب. فما عليك لتستوثق من صحة زعمى إلا أن ترجع إلى صيحفة كالأهرام وتنظر فيما كتبه المتخصصون فى شئون السياسة من كُتَّابها بمناسبة ذكرى يونيو وذكرى يوليو مفتشًا عن نقطة ضوء تعينك على فهم ما جرى في حقائقه لا فى قشوره، فإنك لن تجد ما يكفى أو يشفى، بل ستجد أحيانًا إقرارًا صريحًا بأن ما جرى فى تلك الحقبة كلها لغز ضخم.
وكان أحمد حجازى أسبق فى الإقرار. في "مرثيَة للعمر الجميل" نصٌّ صريحٌ على التَّيَهان وضياع الدليل.
وهنا أعود إلى كلمة سابقة عن "أحمد حجازى" وعمود الشعر، رأى فيها بعض الناس لشدة إيجازها شيئًا من الغموض. ذكرتُ في بدايتها أن السفير الأمريكى "كافرى" كان في وداع "فاروق" في رحلته الأخيرة عن مصر مجبرًا على التخلّى عن العرش. قيل لى ما الذى قصدته بهذه الإشارة؟
قلتُ: ما قصدتُه واضح؛ التنبيهُ إلى العِلَّة، ثم إلى ما بعدها من نتائجَ بطبيعة الحال. لماذا كان "كافرى" هناك ؟ لماذا ذهب إلى "فاروقٍ" يقنعه بألا يقاوم وأن يرحل في سلام؟
ليس عبثًا بطبيعة الحال! لم يكن "كافرى" "فاعلَ خير" كما نقول في عامِّيتنا. وإنما كان رسول دولة أجنبية، رسولَ القوة الأمريكية المتصدِّية لحكم العالم، والتي لها بطبيعة الحال "مآرب خاصة" في حكم العالم العربي خصوصًا ودفعه إلى حيث تريد.
قلتُ في تلك الكلمة السابقة إن أحمد حجازى كان غلامًا في ذلك الوقت. لهذا فالأرجح أنه لم يلحظ أن "كافرى" كان فى وداع الملك، ولو أنه كان لَحَظَ فقد كان من العسير عليه إدراك الدلالة. كان الأفق يلمؤه غبش. وأقول الآن إن الغبش القديم تكاثف الآن حتى منع كتاب "الأهرام" -وهم صفوة- أن يجدوا ولو نقطةَ ضوء واحدةً تنير لهم السبيل إلى الفهم. وهاكم مثلًا واحدًا. فى كلمة جعل عنوانَها "نكسةُ يونيو بعد نصف قرن" قال مصطفى الفقى إن ما سماه "نكسةَ يونيو" ما زال جاثمًا على صدرونا، وفي محاولة للتفسير زعم أن عبدالناصر استُدرج إلى الحرب كيدًا له ولنا لضرب ما سماه "المشروعَ القومىَّ" الذي "يقوده" ولضرب مشروع آخرَ سماه "المشروعَ المصرىَّ النهضوىَّ" الذى تعرَّض لضربات سابقة في أزمنة مختلفة. وكأن إسرائيل كانت واثقةً كل الثقة من نجاح ضربتها وإصابة المشروعيْن في مقتل. وكأنه ليس من الوارد - حتى عقلًا - أن تُهزم إسرائيل! وواضحٌ أن هذا التعليل عامٌّ شديد العموم، وأن الذى نحن في حاجة إليه هو "الخاص" شديدُ الخصوص، الذى يكشف لنا فى جلاء علاقة الولايات المتحدة بما جرى ذلك العام، وقبل ذلك العام، وبعد ذلك العام حتى الآن، وربما إلى ما بعد.
ليس من غرض هذه الكلمة الفحصُ التاريخىُّ عن تلك المسألة العسيرة، وإنما غرضُها الأول كيفيةُ مواجهة الشاعر لها، هذه الكيفية جزء لا يتجزأ من نسيج شعره المنظوم فى عبدالناصر. ولا يمكن للناقد أن يوفى هذا الشعر حقه من الدرس بغير التوقف المتمعِّن عند فهم الشاعر للأحداث. إن هذا الفهم هو الفاعل الأول فى إحساسه بتلك الأحداث وفي صوغ الصور المختلفة التى جادت بها قريحته تعبيرًا عنها. الفهم إذَنْ لازم، وإن كان على نحو مختلف عما هو لازم للدرس التاريخىِّ. ولكن أحمد حجازى كاتب إلى جانب كونه شاعرًا. ونحن إذا أردنا تقويم شعره في عبدالناصر فنحن مضطرون إلى النظر فى فكره المجرد، أى بعيدًا عما يكشف عنه الشعر. أو فلنقل فى فكره النثرىِّ. أحمد حجازى كاتب سياسىٌّ يكاد يكون محترفًا. فماذا تقول لنا مقالاته السياسية بشأن ثورة يوليو؟! يعلم المتتبع لها علمًا شديد الوضوح أنه منكرٌ لها، ناقد، لائم، وربما وجدناه أحيانًا مزريًا بها حانقًا عليها. وهنا كأن ملامح مأساةٍ ترتسم أمامنا. الوجدانُ فى طرف والعقل فى طرف، أو لنقل الشعر فى طرف والنثر فى طرف، وبين النقيضيْن رجل قُدِّر له أن يحار، أن يتيه، أن يضيع، كما تنبؤنا قصيدتُه "مرثيَة للعمر الجميل". في كلمتى السابقة عن عمود الشعر قلتُ تعقيبًا على عنوان القصيدة إنه يريد بالعمر الجميل العهدَ الذى هنئَ فيه بالأمانىِّ الأثيرة والأحلام التى زخرفتها ثقة لا حدَّ لها بالزعيم. وأريد الآن أن أتابع ذلك التعقيب إيضاحًا لملامح ما سميتُه بالمأساة.
يقول الشاعر:  إنني قد تبعتك من أول الحُلْم ... ورحلتُ وراءك من مستحيل إلى مستحيل ...
كنت أمشى وراء دمى ... آه هل يَخدع الدم صاحبهُ ... هل تكون الدماء التى عشقتك حراما؟!
وفي موضعٍ آخرَ يقول:
 صاح بى صائح: لا تصدِّقْ ... ولكننى كنتُ أضرب أوتار قيثارتى، باحثًا عن قَرارة صوتٍ قديم.
ويقول في موضع ثالث:
آه يا سيِّدى ... كم عطشنا إلى زمن يأخذ القلب
قلنا لك اصنعْ كما تشتهى
وأعدْ للمدينة لؤلوة العدل لؤلؤةَ المستحيل الفريدة
صاح بى صائح لا تبايعْ
ولكننى كنتُ أضرب أوتار قيثارتى باحثًا عن قرارة صوت قديم
لم أكنْ أتحدث عن مَلك
كنتُ أبحث عن رجلٍ أَخبر القلبُ أن قيامته أوشكتْ
كيف أعرف أن الذى بايعتْه المدينةُ ليس الذى وعدتْنا السماءْ ؟!
قلتُ إنها "ملامح" لكنى أقول الآن إنها مأساة واضحة المعالم، كاملة الأركان. أمة تبحث عن رجل لا عن مَلِك، ولما جاءها الرجل المنشود إذا به خِلقةٌ حجريةٌ، لا صلةَ بينه وبين المنتظر المرجوّ. حسِبْنا أن السماء استجابت لكنها شاءت أن تفجعنا فى الأمل المنشود. وها نحن الآن بعد أكثرَ من نصف قرن -شعراءَ وغيرَ شعراء- ننظر من حولنا فلا نجد إلا الغبش،
وإلا نخبةً مضطربةً ضعيفةً لا تقوى على شىء ولا يحفزِها شىء إلى طلب القوة.
أعان الله شاعرنا على الصبر، وكما دعوتُ له فى الكلمة السابقة أدعو له مرةً أخرى في ختام هذه الكلمة، مدَّ الله فى عمره ومتَّعه بالصحة والعافية.


الحسانى حسن عبدالله

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

بعضُ الخفىِّ في سيرة العقاد

بعضُ الخفىِّ في سيرة العقاد


قيل قديمًا في المتنبى إنه ملأ الدنيا وشَغَل الناس. ولو أريدَ للكلمة أن تصدُقَ على أحد في العصر الحديث لكان العقاد أجدرَ الناس في زعمى بأنْ يكونَه. أجلْ، هو كذلك ملأ الدنيا وشَغَل الناس. لكن فرقٌ بين مَلءٍ وملءٍ، وشَغلٍ وشغل. كان المتنبى جوَّاب آفاق، أما العقاد فكان كالقابع في بيته لا يفارقه إلا ليعود إليه، أشْبهَ ما يكون برهين المحبسيْن. بيْدَ أنه كان بمواهبه جوَّاب آفاق كذلك على نحو آخر. مكَّنه قلم بليغ تمدُّه مخيِّلة محلِّقة، وطَلَبٌ للعلم لا يفتر، وحسٌّ قومىٌّ أصيل. وهذه الصفةُ الأخيرةُ هى أولُ ما خَطَر لى بعد موافقتى على اقتراح الأخ الكريم السّمّاح عبدالله أن أعرض لسيرة العقاد، أو جانب من سيرته. وليستْ هذه هى المرة الأولى التى ألتفتُ فيها إلى هذا الجانب المهم في حياة العقاد أو سيرته. كانت الأولى في مشاركة لى فى احتفال بذكراه عُقد في المجلس الأعلي للآداب منذ حوالى أربعة أعوام. كانت كلمتى عن "فلسفة الجمال" عنده، وفيها تطرّقتُ إلى العلاقة عنده بين معنى "الجمال" ومعنى "الحرية"، وفيها أشرتُ إلى كراهة العقاد الشديدة للاستبداد، وشهدتُ بأني سمعتُه يسبُّ عبدالناصر سبًّا قبيحًا. وذلك شيء أثار دهشة بعض الناس وفضول آخرين؛ ماذا كان لفظ السبِّ؟ لكني لم أُرضِ فضولًا لأحد، ولا أزال مصرًّا على إبائى التصريحَ باللفظ لأنه لم يكن صريحًا فحسب، بل بلغ الغايةَ في القبح. ولستُ أحبُّ أن أكون راويًا لبذاءة. لكنْ بقى في القصة ما يُروى بلْ ما يجبُ أن يُروَى. قال العقاد ما قال تعقيبًا على إبراهيم الوردانى وهو صفحىٌّ متأدِّبٌ كان يكتب فى "الجمهورية"، التى وُجدت مع وجود النظام الجمهوريّ الجديد. وفي يومٍ من أيام سنةِ ثلاثٍ وستين وتسعمئةٍ وألف فوجئ الناس بصفحة كاملة فى "الجمهورية" فحواها أن النظام الحاكم أخطأ في سماحه للعقاد بالاستمرار في الكتابة، لأن العقاد عدو له. فكان ينبغى أن يُقصى لا أن يمكَّن. وبعد عصر ذلك اليوم جاء العقاد من شقته الأصلية إلى شقة ابن أخيه ليشرب قهوته مع تلاميذه في الندوة الخاصة حيث يكون أكثر إحساسًا بالأمن. وكان طبيعيًا أن يسأله أحدُهم ماذا ترى فيما كتبه الوردانى؟ أطرق الرجلُ برهةً يسيرةً ثم رفع رأسه كالمتنمِّر المتوثِّب وقال ما قال مما عففْتُ عن ذكره، ومما أوجِبُ ذكرَه الآن لشدة حاجتنا إلى أن نتأمَّله طويلًا. قال ما معناه: علم الوردانى أني لا أقْدر على الرد على مثل هذا الكلام، ولو كان الجو السياسى يسمح لصاحب الرأي أن يذيع رأيَه دون حرجٍ أو خوف لكنتُ كفيلًا بأن أجبرَ هذا الرجل على أن يترك البلد باختياره بعد أربع يوميات فقط في "الأخبار". ولكمْ أن تتصوّروا نصّ ما قال إذا استبدلتم "بهذا الرجل" الكلمة القبيحة المتروكة، وإذا ترجمتم بضع كلمات من اللسان العربى إلى اللسان العامى. قال العقاد نصًّا: "يعزِّلْ من البلد باختياره". والآن مطلوب منا جميعًا أن نتفكَّر: ماذا كان يمكن أن تحْويَه أربع مقالاتٍ مما يجبرُ جبَّارًا على أن يهجر ملكه باختياره. "تنبيه": كلمة "ملك" فى صفة النظام الحالِّ محلَّ النظام الملكىِّ سبقنى إليها أحمد عبدالمعطى حجازى فى مرثيته الشهيرة. معنى هذا أنا كنَّا جميعًا مملوكين، أو لنقلْ أوضح وأصرح "أرقَّاء"، وأن الذي جدَّ علينا يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة اثنتيْن وخمسين وتسعمئة وألف لم يكن إلا استمرارًا لاستبداد سابق قاده جبَّار سابق اسمه محمد على باشا. ولدىَّ تنبيهٌ آخرُ بعدُ. فى كلمتى عن أحمد حجازى وعمود الشعر أشرتُ فى مستهلِّها إلى رحيل فاروقٍ عن مصر مطرودًا منها، وأنه كان في وداعه السفير الأمريكي "كافرى". غَمُضت الإشارة على بعض الناس. أقول موضِّحًا والمحسنُ القراءةَ لا حاجة به إلى إيضاح: إن بلادنا، كلَّ بلادنا لا مصر وحدها ألعوبة فى يد الغرب، وإن لم نعرفْ هذا ونرتِّبْ عليه المسلكَ السياسيَّ الجدير بالعارفين فنحن بلا شك فى الهالكين. وكأن هذا النذير المعلنَ الآن معلنٌ من قبلُ، ختمتُ به منذ زمن بعيد قصيدةً لى عن بيل كلينتون كان عنوانها "لا سلامٌ عليك"، قلتُ:
ألا كلُّ ما حولنا مذبحٌ ، ألا كلُّ ما حولنا مسرحُ
وأخيرًا معذرةً إن رأيتم شيئًا من التقصير فى الكلام عن الموضوع. إن سيرة العقاد -وإن تكنْ محدودة- وسَّعتها سعة أُفُقه، وكان الوفاءُ بالكلام عنها يقتضى عرضَ جوانبَ فيها متنوّعة، لكنّ الوقت لا يسمح بإدراك هذا المطلب. وعذرٌ آخرُ أن الواقع الذى نحيا فى مضطرَبه هذه الأيام مستوْلٍ بالضرورة على كل لُبّ. فلا مناصَ من الإصغاء إليه في كل ما نأتى وما نَدَع. فلما قيل لي كلمنا عن العقاد، أو عن سيرته، كان الخاطرالأول كما قلتُ سابقًا هو تلك الكلمة التى كانت حبيسةً فى صدري أعوامًا طالت والتى منعنى ضيقى بالبذاءة من ذكرها، ثم هُديت إلى ذِكْر سائرها الذي رأيتُ فيه الخيرَ كلّ الخير. رأيت فيه كيف يَمْثُل فى كلمة بصيرة جريئة عزمٌ صادق على الجهاد الصحيح، الجهادِ بمعنى الكلمة القائمِ على حُسن البصر وحُسن السياسة وحُسن الخلق.
"يعزِّلْ من البلد باختياره". هنا يجتمع الذكاء والحيلة والفضيلة. ويَعزُب الحمقُ والجهل والهمجية. هنا لا لزومَ لأن تُراقَ قطرةُ دمٍ واحدة من إنسانٍ خلقه الله فى الأصل أعجب الخلق ليحيا لا ليُذبح. هنا نحن فى غنًى عن محاكاة الفرنسيين فى وحشيتهم التى لم يزل الغرب يدعوها بالتنوير. هنا لو كان الأمر بيد العقاد عندما شبَّت الثورةُ الفرنسية لوجد الوسيلة إلى إجبار "ماري أنطوانيت" على أن "تعزِّلْ" من فرنسا باختيارها بدلًا من شنقها. ورحم اللهُ أديبنا العظيم.

الحساني حسن عبدالله