الأحد، 29 مارس 2015

ساعاتٌ في حَضْرة الفكر



ساعاتٌ في حَضْرة الفكر

  ذات مساءٍ من خريف سنة 1958 أويتُ إلى مضجعي منتويًا زيارة العقاد. وفي صباح اليوم التالى اتجهت إلى روكسي بمصر الجديدة؛ حيث البيت، 13 شارع السلطان سليم. لم أكنْ أدري وأنا أتقدم نحو الباب أن تلك النيةَ القديمةَ في ذلك المساء الغابر شاء الله لها أن تكون بداية منعطف  في حياتي سيكون له فيها شأنٌ أيُّ شأن! دخلت، وصعدت السُّلم، وعند نهاية الطابق الأول على اليمين كان باب الشقة مفتوحًا، فضغطت الجرس لِيجيءَ الخادم أحمد حمزة، أو الشيخ أحمد حمزة كما اعتاد تلقيبَه العقاد، ويقودني إلى غرفة الجلوس. وبعد هنيهةٍ جاء الشيخ بمعنى الكلمة، أو فلنسمه، استعارةً من تراثنا الثقافي العريق، بما سُمي به قديمًا ابنُ سينا " الشيخَ الرئيس"، مرحبًا ترحيبه الشهير بكل قادم " أهلاً يا مولانا". وبعد المصافحة اتخذ مكانَه المعهودَ على المقعد الذي كان قدَرًا من أقدار الله لا منجاة لأحد منه أن يخلوَ منه إلى الأبد يوم 12 مارس 1964.
  كنت أولَ زائر، فبدأ الحديثَ إليَّ سائلًا "مِنْ أي معهدٍ أنت؟" قلت: مِن دار العلوم. فبدا عليه الارتياح، وقال عبارات لا أذكر نصها، ولكن أذكر أنها تضمنت ثناء على الكلية لعنايتها المتميزة باللغة والأدب. ثم بدأ الزوار يفِدون.
بعد انفضاض الندوة وجدتُني في حاجة إلى خلوة. فنزلت أتمشى وحدي. وكأني نزلتُ من السماء  إلى الأرض. أردت استبقاء ما كنت فيه من مَتاع. طوّف الرجل بنا في أجواز فضاء رحْب. وكأنه ركّب لأحدنا جناحين يطير بهما معه خلال الآفاق. لذا كان صعبًا عليّ أن أنتقل دفعةً واحدة من عالم الروح إلى عالم المادة والحس.
  أحببت الأستاذ. وقعَ حبُّه في قلبي منذ الجلسة الأولى في ذلك الصباح الذي ألحقه بالغيب كرّ الزمان. والحبُّ وِجدان. أي إنه حتمٌ واقعٌ لا محالة، فيصعب جدًّا التماسُ علةٍ له. لكنْ لا بأس بأن نحاول الاقتراب. إنه حدَث، وهو ككل حدثٍ خاضع لقانون العلة والمعلول. هكذا علّمنا الأستاذ، وهكذا علّمنا من قبله شيوخ الفلسفة، وشيوخ الدين، وشيوخ الفن والأدب. ذلك قانون العقل؛ الوصل ُالمحْكم بين الطرفين اللذين لا مناص من الجمع بينهما جوابًا للسؤال الخالد " لماذا؟".
يقرِّبني من الجواب بعضُ كتاب الله عزّ وجل. ذلك أنّ مِنْ صفة المؤمنين، كما جاء في أول السورة المسماة بهذا الاسم أنهم " عن اللغوِ مُعْرضون". واللغوُ في العربية كلُّ كلام، أو عملٍ، لا فائدة له  ولا خير فيه. وأنا أحدُ الكارهين جدًّا للكلام الفارغ والسلوكِ السخيف. ولقد أصبحا، واأسفا، أو أوشكا أن يصبحا، ظاهرتيْن في مجتمعاتنا، لا عند الدهماء فحسب، بل عند العِلية أيضًا. والذي شهدتُه  في مجلس الأستاذ هو العكس؛ الجِدّ والقصد. لا جَرَم حُبّب لي.
  ويقرُّبني منه كذلك بعضُ حديثِ رسول الله، وَصَف صلى الله عليه وسلم صاحبَه أبا ذر الغفاريَّ بصدق اللهجة. وهي صفة لا يَقْدُرها حقَّ قَدْرها إلا صادقٌ، محب لأهل الصدق، ذواقةٌ للكلام، نافر من التصنع والتزويق. وهي معنًى أشهدُ أني ازددت له فهْما لمـّا استمعتُ إلى الأستاذ.
ويقرُّبني منه كذلك بعضُ شعر المتنبي. جاء في مِدْحةٍ له لبدر بْنِ عَمّار بيتان غريبان لا أذْكر في كل ما اطلعتُ عليه من مدائحَ مثلهما. قال:
تَعرفُ في عينه حقائقَه        كـأنـه بالـذكـــاء مـكــتـــحــِلُ
أُشْفق عند اتقادِ فكرتِه        عليه منها، أخافُ يشتعلُ
لا أدري إن كان ابن عمّار جديرًا بأن تُرسم له هذه الصورة الرائعة، أو هل كان المقصود برسمها أن تكون مثلًا أعلى يضاف إلى غيرها من المـُثل العليا التي ينحِتها صناعُ المدائح عالمين بالفرق القائم قطعًا بين عالم المـُثل وعالم الحقائق الواقعة لتكون أنجمًا يتطلع إليها بُغاة الفضل والعلاء. وهو المعنى الذي عبّر عنه أحسن العبارة أبو تمام في بيته الشهير:
ولولا خِلالٌ سَنّها الشعرُ ما دَرى      بناةُ العُلا مِن أين تُؤتى المكارمُ
أو هل كان أبو الطيب، ربما، يُسقط، غير قاصد، ما عَرفه من أمر نفسه هو على رجل رأى فيه بطلًا، أي هل كان يمدح نفسه هو، دون أن يشعر ـ ولكني أدري يقينًا أن تلك الصورة الرائعة تصْدق كلّ الصدق على الأستاذ، وأنه جديرٌ بها كل الجدارة. لقد كان، رحمةُ الله عليه، دائم الاحتدام. لذا أُعجبتُ به، ولذا حُبِّب إلىّ.
كان ما سَبق إطلالةً قصيرةً على بداية القصة، وفيما يلي إطلالةٌ أخرى قصيرة على نهايتها.
كنت حريصًا على حضور المجلس كل جمُعة، إلا عندما ترغمني الضرورة على التخلف؛ مرضٌ   أو سفر. كان يوم الجمعة عيدًا عندي وعند كل قُصّاد الأستاذ. وفي صباح السادس من مارس سنة 1964 توجهتُ، كما اعتدتُ، إلى بيته لأفاجأ بأنه مريض، ملازم للفراش، غيرُ قادر على استقبال الناس. كنتُ أحد الخاصة، وكانوا بضعة نَفَرٍ أخصُّهم وأبرزهم أديب شاعر عارف بعلوم اللغة والأدب، هو الأستاذ محمد خليفة التونسي رحمة الله عليه. بعد قليل أَذِن الأستاذ لنا في عيادته بغرفة النوم. كان جالسًا على السرير معتمدًا عليه بكفيه. وبعد الإعراب عن تمنياتنا بالشفاء قال التونسي في محاولة للطمأنة مهوّنًا من الأمر إن الحالة ليست أكثر من شيء من الضعف في القلب، فعقّب الأستاذ فورًا قائلاً: "وأنا أعملْ إيه بقلب ضعيف". ثم اضطجع إيذانًا بانتهاء الزيارة.
  وفي صباح الخميس التالي توجهت إلى عملي بمبنى التليفزيون. كنتُ عضوًا بلجنة القراءة بهيئة السينما. وكان رئيسي المباشر في ذلك الوقت الأستاذ نجيب محفوظ، رحمة الله عليه. ولما وصلت إلى المكتب أُخبرتُ أنه يطلبني. وكان يعرف صلتي الوثيقة بالأستاذ. ولمـّا دخلت بادرني بالسؤال: هل رأيت جرائد اليوم؟ قلتُ: ليس بعد. قال: البقية في حياتك، الأستاذ العقاد تُوفي! وأَذن لي بالانصراف إلى مصر الجديدة. وفي الطريق منّيت نفسي باحتمال؛ قلت أليس من الجائز أن أفاجأ عندما أصل أن الخبر غير صحيح، وأن الأستاذ لا يزال يحيا؟! وعند مدخل البيت كان بضعة رجال جالسين، أذكر منهم توفيق الحكيم، ومحمود محمد شاكر، ويوسف السباعى، وكمال الدين حسين، ثم لحق بهم نجيب محفوظ. صعِدت السلم، وفي غرفة الجلوس كان بضعة رجال آخرين أذكر منهم التونسي وعلي أدهم. وكانوا صامتين، إلا من نشيج يُسمع بين الحين والحين، كأنه يقول لي: كَذَبتْك نفسُك! وتذكرت المتنبي لأني وجدته معبرًا أدق تعبير عن حالي في ذلك الوقت:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ        فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يـَدعْ لي صدقُه أمـلاً           شرِقتُ بالدَّمْعِ حتى كاد يشرَقُ بي
ثم أُذِن لنا أن ننظر إلى شيخنا النظرة الأخيرة. لحظتُ أن على جبينه شجّةً واضحةً، لا أعرف لها سببا. ووجدتُني أخيرًا مع العزاء الخالد "إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
  شُيعت الجنازة بدءًا من ميدان التحرير وانتهاءً بمبنى نقابة الصحفيين. كان العقاد مشتغلاً طوال حياته بالصحافة. وفي اليوم نفسه نُقل الجثمان إلى مسقط رأسه ومُقام عائلته؛ أسوان. وفي المساء أُقيم في الميدان سرادق العزاء. وكان في صدارة المتلقين للمعزّين يوسف السباعي رحمة الله عليه. وكان يعامل العقاد في احترام كبير. ولكنْ مما أذكره أني سمعت العقاد يشتمه مرةً في الندوة ـ وكان السبب أن العقاد، رئيسَ لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للآداب، وكان من رأيه أن الشعر الحر نثر  لا شعر، رفض الموافقة على سفر أحمد حجازي وصلاح عبد الصبور إلى دمشق في أحد مهرجانات الشعر، فلم يمتثل السباعي لرأيه، وأمر بسفرهما على أن يكون إسهامهما، ترضّيًا للعقاد، من الشعر المقفى لا من الحر. وهكذا كان. وكسب تاريخ الشعر العربي قصيدتين أضيفتا إليه في مسيرته الطويلة العريقة من نظْم أبرز المؤيدين للشعر الحر في مصر والعالم العربي.
  تنثال عليَّ الذكريات. ولا بد من اختيار؛ لأن المجال لا يتسع لهن جميعًا. فلنبدأ بأَوْردها عليَّ، قضية الشعر الحر. شغلتني منذ الشباب الباكر. كانت أُولى مقالاتي بمجلة "الآداب" البيروتية سنة 1959 بعنوان "نازك وعروض الشعر الحر" بحثًا في صميم المسألة. ولمـّا بدأت صحبتي للعقاد كنتُ أحد المؤيدين للمذهب الجديد في نظم الشعر في "دار العلوم"، ولاحظت أن شيخي لم يدرس القضية الدرسَ الواجب من الناحية العروضية. أذكر أن صلاح عبد الصبور نشر مرةً في "الآداب" قصيدة. يقول منها:
هذا زمانُ السأمْ
نفْخُ النراجيل سأمْ
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلْ
سأمْ
وكان للعقاد صاحب أديب عزيز عليه هو الأستاذ طاهر الجبلاوي، عليه رحمة الله، فذَكرها الجبلاوي في إحدى الندوات منتقدًا لها وتلا الجملة الثالثة من الجمل السابقة تلاوةً تَكسر النظْم وتخرج به  على البحر المستعمل، وهو بحر "الرجز"، ألقاها الرجل هكذا:
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلٍ سأمْ
وواضح أنها تلاوة تحيل الكلام إلى "نثرٍ" صريح. وتدل على أن صاحبها لا يعلم المبدأ الأساسي للشعر الحر العربي. وأقول "العربى" لأن هناك فارقًا جوهريًّا بين الشعر الحر عندنا والشعر الحر  فى الآداب الغربية، وهو ما يقال له فى الإنجليزية  Free verse   وفي الفرنسية Vers libre  ؛ العربيُّ موزون، نوعًا ما من الوزن، والغربي غير موزون. وغَفَل الجبلاوي بطبيعة الحال عن الخطأ الذي وقع فيه عبد الصبور في الجملة الأولى "هذا زمان السأم" ، إذْ إنه ليس من "الرجز" الوزن المختار في القصيدة كلها. والكسور ظاهرة شائعة في الشعر الحر كله. وهي مما توقفت عنده في مقالتي الأولى عنه منبهًا أصحابه "وأصحابي" في ذلك الوقت إلى وجوب إتقان العمل. لكن ّتلاميذ العقاد، والعقاد نفسه، واأسفا، لم يفحصوا المسألة، كما قلت من قبل، الفحصَ الواجب،  مع أن الأستاذ، كما هو معلوم مقرر، من كبار الدارسين المحسنين المدققين المتعمقين في بحث   كل ما يَعرض له من مسائل علمية. انحرفتْ المناقشة بين الحزبين عمّا ينبغي لها. ولو أنها لزمت سواء السبيل لكان مرجوًّا أن يدخل الأستاذ بها في صلب الموضوع، وصلبُ الموضوع أننا بإزاء منهج جديد في "نظْم" الشعر، وعلينا أن نبدأ البحث مما هو صحيح مُسَلّم، إذا أردنا أن نخلص إلى نتائج صحيحة تُسَلَّمُ إلى جانب المسلّمات المبدوء بها. وتلك هي العبرةُ التي نخرج بها من تلك الذكرى التي اقتصرنا عليها تاركين غيرَها إلى أوان آخر، إن قُدِّر له أن يجيء، وخصوصًا في هذه الأيام التي اشتد فيها اختلاط الحابل بالنابل، أنه لا نجاة لنا مما نحن فيه إلا بأن نقيم حياتنا كلها على "أصول". الحياةُ العلمُ، والعلمُ "الأصول".
 
 
الحسّاني حسن عبد الله
 19-2-2014(مجلة الهلال – عدد شهر مارس 2014)

مناجاةٌ للمتنبّي



مناجاةٌ للمتنبّي

أيُّـــــهـــــا الــحـــالـــمُ الــعــظـــيــمُ تــذكَّــرْتُـــكَ لَــمَّـــا لَــمْ أُلْـــفِ حــــــولــىَ خِـــــلَّا
هَـــبــطَ اللــيــلُ، أيــنَ مِــنّــي بَــــــوَادٍ جُــزْتَــهـا كـالــشــهــابِ يــا نـجمُ لَــيْـــلَا
مــــا الّــذي كـــنـــتَ تـبـتـغــي؟ مــا خَــبِــيــئٌ أبَــــت النـــائــبــاتُ أنْ يـتجلَّـى
هَــبَــطَ اللـــيـــلُ فــــادَّكَــــرْتُــــكَ أمْـــســـًا قــــيــلَ: وَلَّــى، وقـلـتُ: لـــمْ يــتــولّــى
وأنَــــا مُـــهــمــلٌ كـــــزِقِّ ريـــــاحٍ، لــيــس عِــنــدي إلا "عــســى" و"لَــــعَــــلَّا"
وَلَــــوَ اؐنَّ الأحــجـــارَ تــعــقــلُ فــجَّــتْ فــجــوةً فـي الـجـدارِ كـيْ أتدلَّـــى
لِـتُـلاقِــي خَــيْلِــي ورَجْــلِــي– وقــــدْ عــــاد إلـيـنـا التتارُ – خــيْــلًا ورَجْــلا
أَفَـــــــهــــــاذٍ أنـــــا؟! تــــــقـــــولُ قـــــوافـــيـــكَ لــمـــنْ آثــــــروا الـــســــلامــــةَ: كــــــلّا
ضـــلَّ بــــاغي الــنَّــجــاةِ بـالـجـبـُنْ ضَــلَّ؛ كلُّنا في نـهايةِ الشوطِ قَــــتْــــلـــى
هــــبـــطَ اللــــيــــلُ فــــادَّكَـــــرْتُ بــــــلادِي، ولــــــســـــانـِي، وخَــنـجـــرًا مُــسْـــتـــلّا
يــســتــعــيــنُ الــدُّجَــى لِـيَــبْـقُـرَ عَــمْــدًا أُمّــــةً بالــكــواكــبِ الـــزُّهْـــرِ حُــــبْــــلَـــى
خَـــدَعـــتْــهــا ريــــحُ الــشَّــمــالِ فــبــاتتْ فـي الهـواء الـعـلـيـلِ تَنْشَقُ سُــــــــلّا
قـــــطــــعــــةً قــــطــــعـــةً تــــخـــــورُ قُـــــــواهــــــا، أَيِّـــــمـــــًا حِـيـنـةً، وحـيـنـًا ثَــــكْــلـــــى
شَــغَــلــتْــهـا عــــن الـمــصـيـرِ أهــــــازِيـــجُ، وســـــوقٌ تــــضِـــجُّ زمْــــــرًا وطــــبْـــلا
ورجــــــالٌ صَلّتْ وصـامتْ وقـالتْ – فـي طُمأْنينةٍ – وَجَدْنا الحـــــلَّا
قـــلـــتُ: هَــــــاكُــمْ كـــتـــابَـــنَـــا فـــاقْـــرؤوهُ، إنــمـــا الـبِـــرُّ أنْ تـــكــونــوا أعْـــــلَـــــى
هــبـــطَ اللـــيــلُ، بَــــيْــــدَ أنّ صـــــبـــاحًــــا فــــي قــوافــيــكَ لا يـــــــــزالُ مُــــطِـــلَّا
وسَــــيَــــنْـداحُ – أَنْــبــأتْـنـِي ضُلوعـي أنْ سَــيَــنْــداحُ فـي ضحًى لا يَــبْــلـىَ

الحسّاني حسن عبدالله

مناجاةٌ لعبد اللطيف


مناجاةٌ لعبد اللطيف
رحم اللهُ أبا همّام
أما بعد، فعندي قبل البدء تنبيهانِ يخصّانِ القصيدة. الأول أني استوحيت أبياتًا أربعةً وقعتُ عليها و أنا أقلّب حماسة أبي تمامٍ لمن دعاها "صفيّةَ الباهليةَ" ترثي أخاها الوحيدَ أو الواحدَ كما قالت. تقول :
كُنا كغصنين فـي جُــــرْثُومـــةٍ سـمقَا حينًا بـأحسنِ مـــا يسمو له الـــشـــجـــرُ (1)
حتى إذا قيل قد طــــالــت فروعُهما، وطـــــاب فيئآهـما، واسـتُـنـظـر الثّـــمــــرُ
أَخْنَـى على واحـدى ريبُ الزمـان، وما يُبقى الزمـانُ على شيءٍ ولا يـَذَرُ
كــــنــــا كأنـجمِ لـيـلٍ بـيـنـهـا قمرٌ يــجـلــو الدّجَى فــهــوَى مـن بــيــنــنـــا الــقـمـــرُ
والبيتُ المستوحى هو الثالث : أخنـى على واحدى ... ووجه الشبه أن صاحبى كان عندي كأنه أخ وحيد.
أما التنبيهُ الآخر فهو كلمة جاءت في البيت الأول من مناجاتي للراحل العزيز، ربما احتاجت إلى بيان. أقول: "قُــلْ للنفاةِ خسأْتم". والنفاة جمعُ نافٍ، وهُم نفاة القَدَر، وهم الفرقة الشهيرة والمعروفةُ في تاريخ علم الكلام باسم "المعتزلة" أو "الجهمية" أحيانًا. و الـمُسَلَّم عند أهل الملّـة أن ما ذهبوا إليه باطل بلا ريب.
(1)             في جرثومةٍ : في أصْل شجرة. وسَـمَقَا : ارتفعا

مناجاةٌ لعبد اللطيف

قُـــلْ للــنُّــفــاةِ خَسَأْتُـمْ؛ طاب مُـرْتَــحَـلِـي، وفَوْقَ كلِّ جـــهـــولٍ منكمُ الــقَـــدَرُ
ولـمْ أزُلْ، زال قــــيـــدٌ راســـفٌ أبــــدًا فــيــهِ، عـلــى رغْـــم ِكــلٍّ مــنـــهــمُ الـــبَــــشَــــــرُ
ولـم أزُلْ، زال وِقْـــــرٌ آدَنـى زمــــنــــًا وانـــــزاحَ، فـــانـــــزاحَ عــنــي الــويْـــلُ والــوَضَـــــرُ
وطاب مُـرْتـبَـعـي، حوْلـي هـنـا شجرٌ، حوْلـي هـنـا خضِرٌ، حوْلـي هنا زَهَــــــرُ
وبـــاســقــاتٌ إذا مـــا شــئــتُ طــيّــعـــةٌ، فـــلـــو رغــبــتُ ادّنَـى مِن كــفّــىَ الــثـــمـــرُ
هـــنــا فـــــواكــهُ أنـــواعٌ، و مُـــتّـــكــأٌ، و إنْ نــــشـــــأْ نُـــصِــبــتْ مِــن تـحـتــنـــــا سُــــــرُرُ
هـــنــا ريـــاحيـنُ أنـــواعٌ، هــنـا أرَجٌ، يَـــضُــوعُ مِــن حـيـثُ لا يُـــــدْرَي ويــــنــــتـــشـــرُ
هـــنـــا كذلك غـابــاتٌ، هـنـا دَغَـلٌ – لكنْ أميـنٌ - هــنـــا ضــالٌ، هنا سَـــمُـــرُ
وطــــارَ طــيـــرٌ هــنــا، لا يشتكي سَـــغَـــبــــًا، واســتـــقــبـــلــتْـــه حَـــفِـــيَّـــاتٍ بـــهِ وُكُـــــرُ
أرى كــذلك حــوْلـي هــــا هــنــا نُــهُـرًا، تـهتــزُّ، تـخـضَـــرُّ فـي أثــبــاجِـــهـــا جُـــــزُرُ
ومُـجْملُ القولِ أنْ لا شيءَ عـندكمُ إلا – هُنَا – هُوَ خيْرٌ، وَهْـوَ مُـبـتـكَــرُ
فــاسـتـغـفــروا اللهَ، ذا خــيـــرٌ لكمْ أبــدًا مِــن أنْ يُـــزَيِّــنَ مــــا جــئــتـمْ بــه البَـــطَــــرُ
نــقـولُ جِـــئْـــنــا ورُحْــنــا لا الـمجيءُ بنا ولا الرَّواحُ، ففيمَ الكِذْبُ و الأَشَــــرُ
وفــيــمَ يَـــزْعمُ زَعَّــامــونَ أنـهـمُ – مِــن بَـــعْــدِ هـــذا – حــيــارَى، ضَــلَّـــةً نَـــظــــروا
النّفيُ إن كــان نفيًا مطلقًا سَـفَـهٌ، و الشكُّ عَـجْــزٌ، بـهذا تَـحكمُ الـــفِــطَــــرُ
أســتــغـــفـــرُ اللهَ، إن الأمـــــرَ قـــــاطــبــةً للهِ، فَـــلْـــيَـــدَّكِــــرْ – إنْ شـــــاءَ – مُــــدَّكِــــرُ
عبدَ اللطيفِ كــأنْـكَ الآن تسمعنـي، كــذا الحديثُ، فــلا يَسْتـغـرِبَـنْ عُـــمَــرُ
أحسنتَ؛ قــــــال أنــــاسٌ لا يــنــاســبُـــنـــا شِــعـــرٌ نَــمَـتْــهُ الـــفَــــلا والأُتْـــنُ والــبَــعَــــرُ
وقـلـتَ: يُبْطِــل فِــعْــلُ الــدهــرِ زَعْـمَـكـمُ، فما تـخلّفَ عــن إيـــقـــاعِــهِ عُـــصُــــرُ
الشـعـــرُ مِن نفَسِ الرحـمــنِ مُقتبَسٌ، لـه عـلــى مـا سـواهُ الــسّـــبْــقُ والــصَّـــــدَرُ
أمّـــــا الــزمــــــانُ فـــــذا حَـــشْـــــوٌ، حــــوادثُـــــهُ كــأنــــهــــا لِـــنــســيــــجِ الــنــاســـجِ الــــوَبَــــرُ
وإنـمـا اهـتَــزَّ مِـن قــبْــل اهتزازتِهِ – فـي عالـمِ الغيبِ قـــبْــل الـواقــعِ – الـــوَتَــــرُ
مـسـتـفـعـلـنْ فــاعـلــنْ مـسـتـفـعـلـن فعلنْ، لـحــنٌ مــن الـمــلأِ العُـلْوِيِّ يـــنـــحـــدرُ
أصْـــلٌ، يــغــورُ بــعــيــدًا، راســـخًـــــا أبــــدًا، ولـيــس رَهْـــوًا بأدْنـى الـهَـبِّ يـــنــتــثــــرُ
وهـــلْ بَنَـى قــطُّ بـــانٍ غــيـــرَ مُــفْـتَــكِــرٍ، إذَنْ فـــذاك بـــــلا ريـــبٍ هـــــو الـــهَــــدَرُ
أحسنتَ؛ قــــال أنــــاسٌ مُــلِّـــئُــــوا حَــنَــقًـــا، كأنـهمْ فـي عـــزيــــزٍ عندهمْ وُتِــــــــرُوا
عــــروضُــــنــــا عــسِــــرٌ، ونــحـــوُنــــا عــسِـــرٌ، وصَــــرْفُـــنــــا عــسِــــرٌ، وديــــنُــنــــــا عـــسِــــرُ
وقـــلــتَ: مـــــاذا إذَنْ يَــبْــقَــى، لَــقــولُــكُــمُ هــذا هــو الــبــاطــلُ البَـــــوَاحُ والــنُّــكُـــرُ
لا كـانَ – إنْ كـان مَبْغاكمْ تَنَكُّرَكُمْ لِلوحْيِ، أو لِلسانِـي – ذلك الــيَــسَــرُ
أحسنتَ؛ قــال أنــاسٌ: ليس يُنهضُنا ماضٍ تَوَلَّـى، غريبُ الوجهِ، مــنــدثِـــرُ
وقلتَ: أَسْرفْتُمُ، بــل سـوف يُنهضُنا، وسـوف يُنهضُنا، أن يُـقـتـفـى الأَثَـــــرُ
أحسنتَ؛ قـــال أنـــاسٌ: فـــوقَ مُكْـنَـتِـنَـا مِــنْ بَــعْــدِ مُكْـنَـتِـهِ أنْ يُـــدْرأَ الـخَــطَـــرُ
وقــلــتَ: بــلْ لم يزَلْ في طوْقِنا عملٌ، وســــوف يـنـفــي الـــرَّزايـــا فتيةٌ صَـــبَـــروا
لــهـمْ بـغَـيْـرِ الـمـخـــازي والـخَــنَــا شُــغُــلٌ، وَرَاقَــهُــمْ فـي سـبـيـل الـعِـــزِّة الـسَّـــهَـــرُ
عبدَ اللطيفِ وأنـــت الآنَ تَعلمُ ما يَنْفي الشكوكَ، ومـــا عَيَّتْ به الــفِــكَــرُ
أمُـــرسِـــلٌ أنــت للــضُّـــــلّالِ قــــافـــيـــةً، تـــــقـــولُ للـــــنــــــاسِ لا تَــــغـــرُركُــمُ الــــصُّـــــــوَرُ
فــمـــا نــهـــارٌ وما لــيــلٌ، ومــا فَـلَـكٌ، ومـــا سـديـمٌ، ومـــا شــمــسٌ، ومــا قـــمَـــــرُ
ومـــا حـــصـــاةٌ، وما رَمْـــلٌ، ومـا جَــبَـــلٌ، ومـا سـمـاءٌ، ومــا أرضٌ، ومــا مَــطَـــــرُ
مَــنْ قــال أَعْلمُ غِـــرٌّ، عند خالقِنا – وليس عند ســواهُ – الـخُــبْـــرُ والـخَــبَـــرُ
فسَرِّحوا الطَّرْفَ في الموتى الأُلى غَبَروا، كم غَيْـرِكُمْ، وكأيِّنْ قبْلكمْ سُحِروا
أمُــــــرسِلٌ أنــت للأعـــراب قــافـيـةً تــقـــول كُــفّــوا، عـسـى إنْ ذُكِّـــروا ازْدَجــــروا
الــمـــالُ للهِ، لا للــــمــــتـرفـيـن، ولا للــظــــــالـمــيــن، فـــــــلا يَــــعْــــلُــــوا ويـــفــــتـــخــــــروا
أَمُـــذْكِـــرٌ أنــت أهلَ الغرْبِ أنـهمُ، و إنْ سـما عِلمُهمْ جدًّا، وإنْ نُــــصِـــــروا
بَـــغَـــوْا، وأنّ لديْــنــا مـثلَما مَـــــكَــــروا مــــكْــــرًا، فـــــــلا يُــعْـجِـبَــنْهُمْ أنـهـم قَــــــــدَرُوا
وأنـــه إنْ يكنْ فــيــنــا الأُلَـــى خَـــنَـــعــــوا، فـــثَـــمَّ شُــمْــــسٌ أُبـــــاةٌ غــــيــــرُهُـــمْ غُــــيُـــــرُ
شُـــمٌّ دُهــاةٌ رُمـــاةٌ قــــال قـــائــلــهُــم، لَـمّا استحرَّ الأذى، واستفحل الـــضّــــررُ
وعـنـدما بَـــلَــغَ السّـيلُ الـزُّبـَـى، وطــغَـى فـوق الـزُّبــى، وطَغَى واسْتوحشَ الـتّــتــرُ
وبــــــان أن الحــــــــوارَ الـــمُـــــدّعَــى عَــــــبَـــــثٌ، وأنّ داءً قــــديـمـــًا لــم يَــــــــزَلْ يـــــغِــــــرُ
و أنّ كـــــلَّ مَـــــــرامِ الــــــغـــربِ ذِلَّــــتُـــنَــــا، شـــيــئـــًا فــشــيــئــًا، وأنَّ الــــوَغْــــــرَ يــــتّــــغِـــــرُ
وَيْـــلُـــــمِّـــهـــا خُــطَّـــةً، وَيْــــلُـــمِّ قَــــابِـــلِــهــا، لـمـثــلِــهــا خُـلِـقَ الـصَّـمْـصَـامَـــةُ الـــذَّكَــــرُ
وإنّ بـــطـــنَ الـــثَّــــرى أوْلـــى بــِمُـمْـتَـحَــنٍ، مِـنْ أن يَـــــدِبَّ عـلـيــهِ وَهْـوَ مُـحـتـقَـــرُ
بــيــضُ الصفائحِ لا ســــــــودُ الصـحــائــــف فـي متونـهنَّ لأهــــلِ الـمــلــةِ الــــوَزَرُ
أمّـــــــــا الـــتــهـــافـــتُ إيـــثــــارًا لــعـــــافـــــيــــــةٍ، فـــــــــــذاك واللهِ رأيٌ طـــــــــــاش مُـــبْــتَـــسَـــــرُ
وذاك أنّـــــــا انــتــقــلْـــنــــا مــن أذًى لأذًى، إذا نَـــــــأَى خُــسُـــرٌ أَلْــوَى بنا خُـــسُــــرُ
فَــلتخْسأ الحكمةُ العرجاءُ، كــم حِكمٍ أَتَتْ عـلـيـنـا مُنيخًا فــــوقــــنــا الــصِّــغَـــرُ
عــبــدَ اللــطــيـفِ كأنْك الآن تسمعُنـي، لا تـبــتــئـسْ، إننـي ما زلتُ أصـطـبــرُ
إنـي أَرَى ظَــفَــرًا فـي الــغَــيْـــبِ مُـــرتــقِـــبـــًا جـــيـــلًا جديرًا بأنْ يـُمْنَى له الظَّــفَـــرُ
لكنْ يـحُــزُّ بنفسي أنْ تـــفـــارقَنـي، وأنت نَـــــدْبٌ، شــديــدُ الـبـأس، مـــبــتـــدِرُ
هــــلْ مـــتَّ، قــــــال الـيـقـيــنُ الـمـرُّ، قـــال، نَعَمْ، وكـــلُّ وُدٍّ سيعرو حَبْلَه بَـــتَــــرُ
كُـــلُّ ابنِ أنثى، وإنْ طالت سلامتُه، يومًا سيكسُوه مِنْ بعد الكَسَا غَــبَــرُ
لــكــنْ يـــحُـــزّ بـــنـــفـــســي أنْ أجيـئَ إلـى دار الــعــلـــومِ فـــــلا أُلْــفِـــيـــكَ تــنــتــظـــرُ
قـــــد كنتُ أحسَبُ أنّ الموتَ ينزلُ بي مِنْ قبلُ، لـمّا دَهَتْ أيــامىَ الـــغَـــيِــــرُ
وعـــنــدمـــــا بــــانَ جـــدًّا أنـنـي شَــبَــحٌ يـــريـــدُ يــنــقــضُّ، أوْهَــي عَـــظْــمَــه الـكِــبَـــــرُ
تـــعـــاورتْـــهُ خــطـــوبٌ لا عـــلاجَ لـهــا، و طـــــالَ فـي غــيـرِ شـيءٍ ينفعُ الــعُــمُــرُ
وقـــــلــــتُ إنّ لـــــقــــــاءَ اللهِ أَرْوَحُ لـــي، وهـــــانَ لـحـدٌ مُـجِـيــفٌ بـــــابَــــــهُ حَـــــجَــــــرُ
 وقــلــتُ مَـــنْ ذاكِــــرٌ إيّــــايَ حـــيــنــئــذٍ، والــنــاسُ تــرضيهمُ الذكرى إذا ذُكِرُوا
وقلتُ يَــنْـظــمُ مَــرْثاتـي أخو ثقةٍ، نَـــدْبٌ، بــصــيــرٌ بـــفــنّ الــشــعــــر، مـــقـــتــــدرُ
أخْــنَــى عَلَى واحدي ريْبُ الزمانِ، وما يُبْقى الزمانُ على شيءٍ ولا يَــــذَرُ
إنْ أنْــسَ لا أنْـــسَ عينيْكَ اللتين هـما، كـكُــل عينيْن، سِــرٌّ، دَقَّ، مُــطّــمِـــرُ
إنْ أنْــسَ لا أنْــــسَ لـمّا جَفّ ماؤُهما، وقالَ ما قالَ فـي مُــوقَــيْــهِـمَــا الــنّـــظــــرُ
هــــذا الـــــوداعُ، ولـــن ألــقــاكَ ثـانـيــةً، حَـــلَّ الــذي مـــا وَقَـــى مِنْ حَلِّهِ حَـــــــذَرُ
جَــــرَرْتُ سـاقــيَّ نـحــو الــبـاب يُـــثــقــلُــنـي عَجْزي، كَأنِّـيَ جيشٌ راح يـنـدحِــرُ
وليس مِنْ شيمتي أنْ لا أخِفَّ إلي عَوْنِ الصديقِ، ولا مِن شيمتي الـخَوَرُ
ودِدتُ لـــو كنتُ مسطيعًا، وهل أحَدٌ قبْلي أعَــــانَ مريضًا وَهْـــوَ يُـحـتـضَــــرُ
ولــيـــس مِـــن ديـــدنـي أنْ أســتــكــيـــنَ إلـى دمْعٍ لأجْلِ قضاءِ الـهَمِّ يــنــهــمِـــــرُ
لكنـنـي بـــشَــــرٌ، واللهُ يَـــــعْـــــذِرُنـــي إنْ شــــــاءَ، وَهْــــوَ إذا مــــــا شــــــاء مُـــــغــــتــــفِـــرُ
فَـلْـتَـذْرِف العينُ، وَلْتبكي فـجـيـعـتَـهـا رفــيــقةٌ صَـــبَــــرَتْ، مـــا عــابـهــا ضَــــجَـــــرُ
وَاهَــــــــا وَأَوْهِ، وَوَاهَـــــــا أَوْهِ، واحَـــــرَبــــا مِنْ لــوعــةِ الفـقْــدِ، شيءٌ فــيَّ يـنـكـسِــــرُ

الحسّاني حسن عبدالله