الأربعاء، 8 أغسطس 2018

مقدمة لدرس طبيعة العروض العربى (الجزء الأول)


مقدمة لدرس طبيعة العروض العربى(الجزء الأول)
 


القِسْم الأوَّل
تمهيد

طبيعةُ الشىءِ حقيقتُه، أو صفتُه الجوهريةُ المميزةُ له عمّا سواه. وطبيعةُ العروض العربى - على هذا - غَرَضٌ لكل ناظرٍ فيه. إلا أنّ كُتبَ العروضِ المأثورةَ عندنا لم تستعمل الكلمةَ صراحةً وإنْ صرَّحتْ بقوانينه أو بما يقومُ عليه مِن قواعدَ فى تفصيلٍ وافٍ محقِّقٍ لفائدةِ العلم الأولى وهى تقريرُ الموازين. لكنَّ إغفالَ الكلمةِ يبدو أنه أَغرى المستشرقين - إلى جانبِ إغراءاتٍ أخرى بطبيعة الحال - بالخَوْضِ فى المسألة. ولَمّا كانت لغاتُهم مغايرةً فى أصْل الخِلقةِ للعربية، وكان العروضُ مَبْنيًّا على الشعر، وكان الشعرُ مبنيًّا على اللغةِ، فقد شقّ عليهم ذوقُ الشعرِ واللغةِ والإدراكُ الصحيحُ للقوانين. ذلك أمرٌ مفهوم، أمَّا غيرُ المفهوم فهو أن ينقادَ لهم بعضُ علمائنا الـمُحْدثين، ممن لفّوا لَفَّهم، وأنْ يعتدّوا ما جاءوا به "علمًا" جديدًا يعالجُ ما ظُنّ عيبًا أو عيوبًا فى العلم القديم. ونحن إِذَنْ كأنا بإزاء عروضَيْن، عروضِ الخليلِ - رضوانُ الله عليه - وعروضِ أهل الغرب. وهذا ما لا يُقبلُ، لأن العروض علْمٌ واحد، ولن يكونَ إلا واحدًا. وهذا الذى قلتُه لك الآن قولٌ مُجمل، سيأتيك بيانُه فيما بعدُ، فاصبرْ.
الأوزانُ الشعريةُ التى بين أيدينا قديمة، لكنْ مِن الصعب أن يُقال فى نشأتها كلامٌ يُطمأنُّ إليه، إذْ إن بعضَها عريقٌ، وبعضُها يُظن أنه وُجد بعد العصر الجاهلى، ولكوْنها باعتراف أهل العلم عندنا وعند غيرنا مُنبئةً عن غرابةٍ وفذاذةٍ وقابليّةٍ للبقاء حتى عصرنا الحاضر بعد زمانٍ طويلٍ حيّةً ناضرةً سائغةً، حارت البريّةُ فيها، فكثر فيها التأوّلُ والرّجْم بالغيب، ولا خيرَ فى علمٍ يُبْنى على الظن.
والذى تريدُه هذه المقدمةُ الخلوصُ من الحيرة، وأن يتأدّى أهلُ العلم إلى كلمةٍ سواءٍ تُبْرئه مما حاق به من اضطراب. ثُم إنى أريدك أن تربط تلك الفوضى العروضيةَ بفوضى أخرى أشدَّ منها وأخطر. وهل يَخْفى عليك ما نحن فيه من سوء الحال؟! لَكأن داءً توحّش أنشب نيوبَه فى كل جوانب حياتنا، فحيثما يـمَّمْتَ لقيت موجًا يلتطم، أو ريحًا تهبُّ، أو أُوارًا يتلظّى، وكأن البلاء عَمَّ حتى لم يبْق لنا إلا اليقينُ بأنا لا نجتمعُ على ضلالة. ولعله لا يشقُّ عليك أن تجد وجْهَ الارتباط بين الفوضَيَيْن إن كنتَ ممن يعنيهم الـهَمُّ العام. فإن آثرتَ أن تُغمض  عينيْك حتى لا ترى ما يشقُّ عليك مما هو بَيِّن لكل ذى عينيْن فإنى أدعوك إلى مراجعةِ كثير من المقالات والبحوث والكتب التى تصدَّى أصحابُها لمعالجة المسألة "القومية" فى العصر الحاضر، وخصوصًا فى نصف القرن الأخير، وخصوصًا من أهل الفلسفة وعلم النفسِ لترى مبلغَ الاهتمامِ بالحالة الفكرية العامة للأمة، ولترى من وجهٍ آخرَ مبلغَ ما نحن فيه من تَيَهان.
وأكتفى باستشهادِ اثنيْن كلاهما فى تخصّصه شيخٌ عَلَم. يقول الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق ناعيًا علينا تقليدَ الغرب: "الخطأُ الذى يقعُ فيه أغلبُ الدارسين للفكر الغربىّ هو أنهم يدرسونه بعيون الغرب، فتراهم يردّدون مجرّدَ ترديد ما يقوله الآخرون. وإذا كان هناك نقدٌ فهو أيضًا نقدُ مفكرى الغربِ لمفكرى الغرب" ... ثم يقول: "نحن فى حاجة ماسّةٍ إلى تغيير أساسىّ فى توجّهاتنا الفكرية لنعرف بكل دقةٍ مَن نحن؟ وما هى أهدافنا الحقيقية؟ وماذا نريد؟ وكيف السبيلُ لتحقيق ما نريده؟ ... ثم يقول: "لا ينبغى بأى حال من الأحوال أن ينفصل الفكر عن المجتمع، ويتجاهلَ مقوِّماتِ المجتمع، تلك المقوّماتِ التى تعطِى لكل مجتمع هويّتَه المتميزة وشخصيتَه المستقلة".[مِن كتاب "مقدّمة فى الفلسفة الإسلامية"]
أمّا الشهادةُ الأخرى فهى للأستاذ الدكتور مصطفى سويف، رحمةُ الله عليه، يقول مِن مقالٍ جَعَلَ عنوانَه "الوعىُ المفقود": "دعانى إلى كتابة هذا المقال دواعٍ متعددةٌ، يأتى بعضُها من خَارجِ الوطن، وبعضُها من داخله، وكلُّها تنذر بأمورٍ بالغةِ السوء تهَدّد مستقبلَ هذه الأمة القريب والبعيد معًا ... وأمامَ هذا الزّحف المتسارع نحونا مِن مصادر التهديد بالغةِ العدوانية على هُويَّتنا وحقنا فى الحياة الحرة الكريمة رأيتُ أن ملاذنا الأولَ فى مواجهته هو شحذُ الوعى إلى أقصى المدى." وفى موضع آخرَ يقول: "فى أوقات التغيّرات الاجتماعية الشاملة والمتسارعة - وهو ما يحدثُ فى مجتمعنا الآنَ - تختلط الأمورُ على الناس، وتهتز فى نفوسها القيم ... ومِن ثَم يصبح فرضَ عينٍ على كل مَن آنس فى نفسه الصلاحيةَ أن يُسْهم بقدْرِ استطاعته فى وضع النقاط على الحروف".[مِن كتاب "مِن بعيد ومن قريب"]
ثُم إنى أريدُك قبل أن نرجعَ أدراجَنا أن تظلَّ على ذُكْرٍ من أمرين جديرين بالذكر دائمًا فيما سَلَف من كلام الشيخيْن العَلَميْن، أولًا أنا مقلّدون، وثانيا أنا مهدَّدون. أمّا التقليدُ فهو الآفةُ التى إذا تمكّنتْ مِن قومٍ فعُدَّهم فى الهالكين، ولقد حذَّر منها قديمًا أبو حامدٍ ناظرًا إليها من وجهٍ، كما حذَّر منها بعده ابنُ تيميةَ ناظرًا إليها من وجهٍ آخر، فارجعْ إليهما تجدْ بإذن الله ما ينفعك. وهى - بعدُ - الآفةُ التى سترى مِن أمرها عجبًا فيما يلى عندما نسبحُ فى بحار العروض.
وأمّا التهديدُ فيكفيك منه أن تعودَ بالذاكرة القهقرى، وأن تُعمل مُخيّلتك لتشهدَ خيلَ نابليونَ وهى تقتحمُ الأزهرَ قبل أكثرَ من مئتىْ عامٍ، ولتشهدَه هو نفسَه وهو يُسقط منّا بأمْره شهيدًا كل يومٍ ليُشيعَ الخوفَ، كما قال، فى أفئدة المقاومين بُغْيةَ زجْرهم. ثم لعلك راءٍ بعدُ أننا أوْلى من الأمريكيين بأن نهتف مثلما هتفوا سنة 1983 فى بيانهم الشهير: "نحن أمةٌ فى خطر".
نَعَمْ فى خطَر. وإلَّا فقُلْ لى بربكَ هل يُعقلُ أن يقول فينا قائلٌ إن العروضَ العربى مستمدٌّ من العروض اليونانى؟! [راجع: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها: عبدالله الطيب]، وهل يُعقلُ أن يقول فينا قائلٌ إن الشعرَ العربىَّ قديمَه وحديثَه معيبٌ، وأنْ لا شىء يخلّصُه مِن عيبه إلا استعارةُ العروض الإنجليزى؟! [راجع كتاب "النويهى": الشعر الجديد]، وهل يُعقلُ أن يقولَ فينا قائلٌ إن العروض العربى فاسدٌ فسادًا لا علاج له إلا تَرْكُهُ؟! [راجع كتاب أبو ديب: "فى البنية الإيقاعية للشعر العربى: نَحو بديلٍ جذرى لعروض الخليل.]. ثم أخيرًا وليس آخرًا هل يُعقلُ أن يقولَ مستشرقٌ إن الوتِد المجموعَ قسمان، حَرْفُه المتحركُ قسمٌ وآخِرُه قسمٌ، ثُـمَّ أن يكون فينا من علمائنا الكبار من يَعتدُّ هذا القولَ شيئًا يُؤْبَهُ له ويُرَى مسألةً من مسائل العروض تُبحثُ وتُدرس وتُفحص وهى لا تساوى عند أدْنى النظرِ قُلامةَ ظفْر؟! [راجع مقالتىْ "فايل" فى دائرة المعارف الإسلامية، 1913م، 1960م، وكتاب شكرى عياد: موسيقا الشعر العربى.]. أىُّ شىءٍ هذا، وهل هو خطلٌ عروضىٌّ فقط أم خطلٌ عام؟! كيف جازَ فينا ما لا يجوز؟!
هذه مسألةٌ عسيرٌ بلوغُ جوابٍ واضحٍ عليها، وتقصِّيها يخرجُنا من العروض إلى الفلسفة. من موضوعٍ "علمىّ" محدّد إلى موضوعٍ كأنه لا يريد أن يتحدد، بين مشكلة خاصة بالوجود القومى كلِّه ومشكلةٍ مزعومة خاصةٍ بالعروض العربى كلِّه، استفحلتْ حتى قيل لا حلَّ لها إلا بإحلال عروضٍ جديد محلَّ عروض الخليل. إنما اضطرنى إلى مجاوزة التخصص أن العروضيين من أهل الزمن الحاضر تجاوزوه، وأسرفوا حتى غفلوا عن تناقضاتٍ شنيعة، وحتى قال قائلهم إن ما نحن فيه من تخلّفٍ وعجزِ ما يقال له العقلُ العربى عن اللّحاق بركب النهضة العلمية العالمية الحديثة إنما هو من أثر طرائقنا القديمة فى التفكير، ومنها طريقتنا فى النظر إلى طبيعة علم العروض. وهذا المنحى فى رؤية واقعنا هو - عندى - ليس فكرًا، وإنما هو حالة نفسية شاذّة، تستبدّ بأصحابها فيميلون إلى بـخس أنفسهم وتضخيم غيرهم، ولو استبدّتْ أكثرَ رضُوا بها حتى يَفْتِك بهم الاستخذاء.
أعطانا الخليل علمًا نافعًا، معتَمَدًا عندنا وعند غيرنا، فماذا أعطانا منكروه؟! إليك مثلًا: رأى المستشرقون أن العروضيين العربَ القدماء جهلوا قسمةَ "المقاطع" اللغوية إلى قصيرٍ وطويل، وأن هذا عيبٌ - فيما زعموا - خطير، ونظر الدكتور محمد مندور فيما زعموا ووافقهم عليه، ثم ذهب يطلب علةَ العيب فهداه نظره إلى أنها عدمُ اطلاع العرب على العروض اليونانى، كأنه أراد أنهم لو اطلعوا عليه لوجب عليهم أن يأخذوا به! ورَأَى الدكتور عبدالله الطيب - وهو من كبار العارفين باللغة فى العصر الحديث - أن العروض العربى اختراعٌ عجيبٌ، مدهش أشدَّ الإدهاش، وأنه يلزمُ لهذا أن يُبحث فى مصدره فهداه البحثُ إلى افتراض عجيب كذلك، مدهشٍ كلَّ الإدهاش، أن العروض اليونانى بَلَغَ العربَ بعد رحلته إلى فارسٍ فأخذوا به لكونه قائمًا على القسمة المقطعية المعتمَدة فى فقه اللغة الحديث، وهى القسمة القائمة فى الشعر العربى واللغة العربية، وبهذا استبعَد أن يكون العرب اهتدوا إلى عروضهم استجابةً لهداية الفطرة، وكأنه أراد أن العبقرية العربيةَ من الضآلة بحيث لا يُتصور أن تبتكر وإنما قُصاراها أن تقلّد ! وواضحٌ أننا بإزاء تعارضٍ حادّ. فى طرفٍ: "عَرَفَ" العربُ العروضَ اليونانىَّ، وفى الطرف الآخر: "لم يعرفوه".!
وهاك مثلًا آخر: فى بعض لغاتِ الغرب كالإنجليزية والألمانية ظاهرةٌ يقالُ لها بالإنجليزية Stress، وبالألمانية Druck أو Akzent، وليس لها فى العربية أو علومها اسمٌ أو ذكْرٌ، والسببُ أنها ليست فى لغتنا ظاهرة أساسية، لكن بعض اللغويين المحدثين عربًا وغير عرب ظنوها شيئًا قابلًا لأن يكون له فى العربية شأن فاعتنوْا بدرسها وسُميت مع برجشتراسر - المستشرق الألمانى - "الضغطَ"، ومع إبراهيم أنيس "النبرَ" وقُدّر للفظ الأخير أن يشيع. والنبرُ نوعان، نبرُ شدةٍ، ونبر ارتفاع، والأولُ هو المقصود فيما يتعلق بلغتنا. قال الألمانى: لا وجود له فى العربية، وقال العرب: هو موجود وله قوانين. وواضحٌ هنا كذلك أننا بإزاء تعارضٍ حادٍّ. [راجع لبرجشتراسر: التطور النحوى، ولأنيس: الأصوات اللغوية.] ولعلَّ فى هذيْن الشاهديْن ما يكفى دليلًا على أن مسألة طبيعةِ العروض العربى قد وقعتْ فى حيْصَ بَيْصَ منذ ما وقعتْ فى أيدى العروضيين المحْدثين عربًا وغيرَ عرب. وسنرى فيما يلى - فى المقدّمة وما بعدها من تفاصيلَ إن شاء اللهُ - مزيدًا من الدليل.
لكنْ لم يزل عندى ما أجدُه لازمًا أن تشتملَه هذه الكلمةُ التمهيدية. وعسى أن ينحصرَ فيما يلى:
1. لكلّ لغةٍ خصائصُها؛ بعضُها جوهرٌ، أى مميِّزٌ أساسى، وبعضُها عَرَض، أىْ يُوجَدُ غيرَ مميِّز. هذه حقيقةٌ يجبُ أن تكون فى بالك وأنت تنظرُ فى مباحث العروض، وفى كل مبحثٍ لغوىّ. لأن الغفلةَ عنها مفضيةٌ حتمًا إلى خطأ. وهذا ما وقع فيه العروضيّون المحدثون فى محاولاتهم المخفقةِ فى تفهّم العروض العربىّ. غفلوا فكان ما كان من تخليط، أو مما دعوناه من قبلُ بالحيصَ بيص. وخُذْ شعر اليونانية القديمة مثلًا - إن عروضه - كما يقول الخبراء - كمىّ أى يقومُ على قسمة مقاطعه إلى قصير وطويل. والنبرُ قائمٌ فيه كذلك، لكنه عَرَض فيه لا جوهر. فلو حاول شاعرٌ يونانى أن يستبدلَ بالكمِّ النبرَ لما جاء إلى قومه إلا بقبيحٍ مستهجن. وخُذ مثلًا آخر من الإنجليزية، إنّ عروضَها نبرىّ، أى يقوم على قسمة مقاطعه إلى خفيفٍ وثقيل، والكمُّ قائمٌ فيه كذلك، لكنه ثانوىّ - فلو حاول شاعرٌ إنجليزىّ أن يستبدل بالنبر الكمَّ لكان محتّمًا أن يخفق، ولَـمَا أتى إلا بغثاء. وهذا ما جرى مرةً فى تاريخ الشعر الإنجليزى واضطُرّ أصحابُ المحاولة إلى العدول عنها لثبوت أنها عملٌ غيرُ صالح.
ثم نأتى إلى لغتنا. قائمٌ فيها على نحوٍ ما الكمُّ - أى تباينُ المقاطع، أو ما سُـمِّى بالمقاطع، من حيث طولُها أو زمنُ النطق بها. وقائمٌ فيها النبرُ على نحوٍ ما، أىْ قسمة المقاطع إلى شديد وغير شديد. لكنَّ الصفتيْن كلتاهما عَرَضٌ لا جوهر. وإذَنْ يثبتُ إذا صحَّت الحقيقةُ المقرّرةُ سابقًا - وهى صحيحة بلا ريب - أن اعتمادَ إحدى الصفتيْن، أو كلتيهما، جوهرًا هو ضَرْبٌ من الخَرَق. أما الصفة الجوهرُ فى العربية فآتٍ ذكرُها فيما بعدُ فى فِقرةٍ من فِقرِ المقدمة.
2.   قديمًا قال أبو العلاء:
وإنى - وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه - لآتٍ بما لمْ تستطعْهُ الأوائلُ
كلُّ ذى طموحٍ يقولُ قولةَ شاعرنا الحكيمِ تلك. وحَسَنٌ أن يكونَ لك عقلٌ عامل. وأن تحاولَ السموّ، لكنْ ليس حسنًا الاعتسافُ والادّعاءُ واستعجالُ بلوغِ الغاية. وكأن شيئًا من هذه الآفاتِ أصاب العروضيّين المحْدثين عربًا وغيرَ عرب. وكأن مطلبًا لكل منهم أن يزعمَ أنه مجدِّد، أو أنه أحدُ "صناديدِ أخرياتِ الزمانِ". لا بأس. ألَمْ نقلْ من قبلُ إن التقليد عيب؟ بلى قيل. لكنْ فاتنى استدراكٌ: إذا دَفَع بك تَرْكُ التقليد إلى التهوّرِ فالتقليدُ حينئذٍ خيرٌ من التجديد بلا ريب. ولو أنك تقصّيت كلَّ ما جاءنا به أولئك المحْدثون لوجدتَ عند كلٍّ منهم شيئًا من التهور. لكنْ دعنا ننظرُ إلى الشاطئ الآخرِ لنرى ماذا هنالك. تحت عنوان "أسسٌ جديدةٌ لدراسة العروض العربىّ" يقول الدكتور شكرى محمد عيّاد رحمة الله عليه: "منذ نحو رُبع قرنٍ، أى قبل حركة الشعر الجديد بعدة سنوات، وقبل أن تنشر نازك الملائكة كتابها "قضايا الشعر المعاصر" بنحو عشرين عامًا، كانت الجامعةُ مركزًا لدراسة رائدةٍ تبحث عن أسس جديدة للعلوم اللغوية العربية، فظهر إحياء النحو لإبراهيم مصطفى فى أواخر الثلاثينيات، وقام حوله جدلٌ غير قليل، وظهرت دراسات مفردة عن تاريخ البلاغة العربية ومناهج تجديدها لأمين الخولى، لـخّصها بعد سنواتٍ فى كتابه "فن القول" 1947 ثم جمعها فى كتابه "مناهج تجديد" - 1961. وكان للعروض نصيبٌ من هذا الجهد ..." ثم يقول بعد كلام: "يجبُ إذَنْ أن يُدرس العروض العربى من جديدٍ على أسس من علمى الأصوات والموسيقا. لكن هذا ليس كلَّ شىءٍ فى تجديد العروض، فإن المادة التى أقام عليها علماءُ العروض علْمَهم تحتاج أيضًا إلى إعادة النظر". [راجع: موسيقا الشعر العربى - مشروع دراسة علمية.]
أما بعد فإن العلم - قطعًا - إضافة. والإضافةُ تجديد. والإضافة، أو التجديدُ، شأنُ العلم والعلماءِ حيثما كان علمٌ وعلماء، وفى كل زمان. لكنْ قلْ لى بربكَ ما هذا الذى انتابنا حديثًا - وكأنه حُمَّى - فجعلنا نسرف فى الإلحاح على ذكْرِ الجدةِ ومشتقات الجدة فى موجِبٍ وبلا موجب؟! لم يكن الحالُ هكذا قديمًا. وبين يديك تاريخنا كلُّه فانظرْ هل تجدُ فيه مثلَ هذه الحمى؟! يبدو أن القدماء كانوا أعقل.
فإذا كان الدكتور شكرى وضَع كتابه استجابةً لما عمَّتْ به البلوى أو لما سُمى بروح العصرِ، أو رأى أن الجدّة فى ذاتها مطلب دون اعتبارٍ لنتائجها فقد جانبه السداد. إن طالبَ العلم، المحبَّ له، لا يعنيه إلا إدراكُ الصواب، وهو فى طلبه حتى يَـجدَه. وإذا بَلَغَ مرادَه فإن أهل الاختصاص سيشهدون له لا محالة. ولن يكون بحاجة إلى أن يُطنطِنَ أو يُطَنطَن له بأنه مجدِّد، أو أنه أتى "بما لم تستطعْه الأوائلُ".
3. العقلُ - فى جوهره - قرار. لا أقول ‘عندى’ لأن هذه قضيةٌ بديهية، وهى إذَنْ صادقةٌ عندى وعند كل أحد. لكنّ متفلسفًا يونانيًّا قديمًا اسمُه ‘بروتاجوراس’ زَعَمَ عكسَها. وهى بداهةٌ انتفعَ بها شاعرُنا القديم نابغةُ بنى ذُبيانَ فى قوله:
نُبّئت أنّ أبا قابوسَ أوعدنى، ولا قرارَ على زأرٍ من الأسدِ
مصوِّرًا أحسنَ تصويرٍ حالةَ المطارَدِ الخائف. أقول إن الذى يرضَى بعكس تلك القضيةِ إنما يختار لنفسه واعيًا أو غيرَ واعٍ تلك الحالةَ البائسةَ التى يكون عليها كلُّ مطاردٍ خائف. حالةٌ لا يرضاها، أى لا يَقرُّ عليها، عاقل - لأن العقلَ إنما جُعِل للركون إلى شىء، شىء ما، سُمّىَ فى علم الفلسفة بالحقيقة. وكأن العقادَ حذّرنا التوغلَ فى طلبها حتى نجدَ أنفسَنا عاجزين عن القرار، فى قوله:
إذا ما ارتقيْتَ رفيعَ الذُّرَى، فإياكَ والقمةَ الباردةْ
أىْ حيثُ تنْبَتُّ فلا تقْوَى على اتّخاذ وُجهةٍ أو رأىٍ يُتَّجه إليه.
تلك الحالةُ البائسةُ أزعمُ أن نارَها تدنو، وأنها توشك أن تصبح عندنا مما تعُمُّ به البلْوَى. هناك عديدٌ من الشواهد، وشاهدى الآن مستمدٌّ من كتاب "موسيقا الشعر: مشروعُ دراسةٍ علمية" لشكرى عيّاد، غَفَرَ اللهُ له. رَأَى مستهلَّ كتابهِ أن الدراساتِ العروضيةَ الحديثةَ لا تتفق على آراء واحدة، ‘فنحن إذَنْ أمامَ علمٍ يخضعُ لتغير سريع، ككثير من الدراساتِ العلمية فى هذا العصر’. قال: ‘ولكنا لا نضيق بذلك فنحن نعلمُ أن وظيفةَ القواعدِ - فى كثير من الأحيان - هى تغطيةُ ‘الجهل’. ثم قال كالمحتجّ لرأيه ‘إننا لو استطعنا أن نصلَ إلى الحقيقة كلها يومًا فى أى أمر من الأمور لَوجب أن ننقطع عن التفكير فيها، وفى هذا الانقطاع نفسِه فناءُ الحقيقة’. ثم قال: ‘حسْبنا إذَنْ أننا فى سَعْينا نحو الحقيقة العلمية تتكشف لنا أشياءُ يثبتُ صدقُها بالممارسة العلمية وإن ظلّتْ الحقائقُ نفسُها بعيدةً عنا، بلْ وإن ازدادت بُعدا، كما يُفاجأُ المرءُ بأنه كلما ارتفع وَجَد الأفقَ أمامه أكثر اتساعًا’. ثم يعترف الأستاذُ فى ختام رأيه بأن معظمَ ما كُتب من النقد حول الشعر الجديد ‘عَجَز عن أن يقدّم خدمةً حقيقيةً للشعر - جديده وقديمه - باتّخاذه موقف الهجوم أو الدفاع’ تلك هى الخلاصةُ عنده: لا تهاجمْ ولا تدافعْ. أى لا تقلْ - فى أىّ من الأمور نَعَمْ ولا تقلْ لا. وحسْبُك من النظر - بعبارته - "توضيحُ المشكلات" أى مجردَ توضيحٍ، وإياكَ أن تَقْطعَ فتخرجَ عن مقتضى ‘مناهج البحث العلمى’، أو ما سمّاه ‘مشروع دراسةٍ علمية’! ولعلك لست فى حاجةٍ إلى بيان يوضح لك وجه الشبه بين هذا الكلام وكلام اليونانى القديم، الذى ‘وصف فى تاريخ الفلسفة بأنه مجرد سفسطة، أىْ - بالعربية - ليس إلا لغوًا. ويشق علىّ الاستطرادُ فى الوصف لأن الرجل برغم فداحة الخطأ إن كان كبا فى هذه فله فى غيرها إحسانات تشهد له بأنه أحد أهل الفضل.

الحساني حسن عبد الله







الاثنين، 19 فبراير 2018

البيانُ الثانى


لَدَيْنا فى شعرنا الحديث مسألة. ومطلوبٌ أن نستجليَها، وأن نعكفَ على معالجتها، وألا نفارقَها حتى ننتهىَ فيها إلى قرار. سُميتْ قبْلَ سبعينَ عامًا بالشعر الحر، ثم توالت على تسميتِها استدراكاتٌ، لكنْ لا تزال التسميةُ الأولى هى الأشْيع، وإنْ شابَها بعضُ غموضٍ مرجعُه إلى معنى الحرية. عَرَضتُ لها فى بيانٍ أولٍ مستهلَّ ‘‘عفْتُ سكونَ النار’’ نُشر سنة 1972م راجيًا أن يكون محقِّقًا للمطلوب إذْ أَلَمَّ بجوانبِ المسألة فى مُجملها، لكنّ خمسين عامًا مرّتْ ولا يزال الغرضُ ينْأَى، مُنْبئًا أنّ هناك صعوبة. والصعوبةُ - عندى - راجعةٌ إلى طروء معنى "الحرية" على شعرِنا الحديث، وعلى حياتنا الحديثة كلها، وهو معنًى لم يكنْ قائمًا فى العقل الناطق بالعربية قديمًا، فى الشعر، أو نقده، أو فى الحياة على وجه العموم. ذلك أنه معنًى وَفَدَ إلينا مِن بعيد، ولم يكن ناشئًا فينا.
كانت "الحريةُ" عند العربى "فطرة". كانت هى "الأصل" الأصيلَ فى عالمه كلِّه. لذا لم يكن محتاجًا إلى أن يجعلَ منها موضوعًا للنظر فى معناها. ولذا برِئَ فكرُه من "اللتّ والعجن" الذى مَلَأ فكرَنا الحديث بشأن ذلك المعنى. قالت "هندٌ" مندهشةً لـمَّا أُمرت النساءُ بألا يزْنين "وهل تزنى "الحرةُ" يا رسولَ الله؟!". وأَدَلُّ من هذه الكلمة على استحكامِ معنى الحريةِ فى الوِجدان العربى كلمةُ عُمَر رضوان الله عليه لعمرو بن العاصِ، رفيقِه فى الصُّحْبَةِ والجهادِ "متى استعبدتم الناسَ وقد وَلَدَتْهم أمهاتهم "أحرارًا" ؟! "الناسَ" - أىْ كلَّ الناس لا العربَ وحدهم. الأصلُ عند العربىّ ألا يُقْهَرَ أحدٌ. "وَلَدَتْهم أمهاتهم أحرارًا". وأرضُ اللهِ واسعة. ما على العربىّ إذا أراد أن يملأ رئتيْه من سَعَتِهَا إلا أن يَخرجَ مِن داره متأبطًا "شرَّهُ" ليجدَ نفسه فى فلاةٍ هو خِرِّيتُهَا الضاربُ فيها - بعبارة المتنبّى - بلا دليل، والصابرُ على حَرّها بلا لثام. هو حُرٌّ، وكلُّ عباد الله أحرارٌ، بحُكم خلقةِ ربهم، لا استنتاجًا من مقدِّماتٍ أو مجادلات. تلك طبيعتُه الحقُّ التى قد تصيبُها الحوادث أحيانًا بالوهن، لكنها لا تلبثُ أن تَلُمَّ الشَّعَثَ عائدةً إلى سابق عهدِها، إلى أصْل خلقتها.
وإذا استحضرنا فى أخلادنا أن الحرية فى وِجدان العربى أصْل، فيجبُ أن نذكر معها أن كلَّ شئون الحياةِ وكلَّ علومها قائمةٌ على "أصول". ولله دَرُّ ابن جنىِّ لـمَّا رأى فى العربية "خصائصَ" هى فيها "أصولٌ" عُليا تتجاوزُ ما فيها مِن مقتضيات الرفْع والنصْب والجرِّ والجزم مما فُرِغَ منه فى أكثر الكتب المصنَّفَةِ فيه، ولـمَّا طَلَبَ لكتابه الشهير الصعبِ أن يكون مبنيًّا على "إثارة معادن المعانى، وتقرير حالِ الأوضاعِ والمبانى، وكيف سَرَتْ أحكامُها فى الأحناء والحواشى".[الخصائص: 33] الأحناءُ جمعُ حِنْو كعِلْم. كلمةٌ استعملها ابن جنى فى موضعٍ آخرَ [ص 13] وقال المحقق فى شرحها "أحناءُ الأمورِ أطرافُها ونواحيها، وأحناءُ الأصل اللغوى تصاريفه، فإنّ كلَّ تصريفٍ طرفٌ له وناحيةٌ منه". ورحمَ اللهُ الشيخَ "محمد على النجّار".
هُدى ابن جنّى إلى علم بشأن طبيعة العربية رآه جديدًا. وإنه لكذلك. علمٌ ظل عاكفًا عليه زمنًا مُعْظِمًا له، معتقدًا فيه أنه مِن أشرفِ ما صُنّف فى علم العرب "وأَجْمعِه للأدلة على ما أُودعتْه هذه اللغةُ الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطتْ به من علائقِ الإتقان والصنعة"، مقرّرًا أن البصريّين والكوفيّين نَكَلوا - مُعْظمُهم - عن الخوضِ فيه لما فيه من غرابةٍ وفذاذة.
وأكتفى هنا بملْحظ واحدٍ تاركًا التفصيل إلى غير هذا المقام. بدأ الرجلُ كتابَه بالفرق بين الكلام والقول ناظرًا فى "أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلّب حروفهما - قال: فإن هذا موضعٌ (يعنى الاشتقاق مع التقلّب لا الاشتقاق المعهودَ المعلومَ فى علم الصرف) يتجاوزُ قدْر الاشتقاق، ويعلوه إلى ما فوقه". وأريدُك الآن أن توجّه أقصى انتباهِك إلى الجزء الأخير من العبارة، أعنى إلى قوله "يعْلوه إلى ما فوقه، قبْل أن تتأملَ ملاحظته. قال: "إن معنى "ق و ل" أين وُجدتْ، وكيف وقَعتْ، مِن تقدّم بعض حروفها على بعض، وتأخّره عنه، إنما هو الخفوفُ والحركةُ، وجهاتُ تراكيبها السّتّ مستعمَلةٌ كلُّها". [قال الشيخ النجّار: الخفوفُ مِن قولهم: خفّ القومُ إذا ارتحلوا مسرعين.]
الخفوفُ والحركة ! ذلك هو المعنى "الأعلى" الذى كان يجول فى خاطر العربى - واعيًا أو غير واعٍ - وهو يُقلّب المادةَ المعطاةَ له فى جهاتها السّتّ، فلا يترك منها جهةً إلا ولها حظّ من ذلك المعنى العام الذى يتنزّلُ من عليائه على اللسان باديًا على نحوٍ مّا فى كلّ أحناءِ المادة. وإذَنْ هذه لغةٌ كأنها نشأتْ فى السماء. فأىُّ عجبٍ هذا ؟! لكنْ يلزمنا هنا لُبْثةٌ نحاولُ فيها أن نكشفَ عن وجْه العجب، أو بعضِه على الأقل."ق و ل" تلك هى المادةُ المتاحة. فلننظرْ كيف عالجها العقل العربىّ قبل أن تستحيلَ إلى ألفاظٍ متنوعةٍ جاريةٍ على الألسنةِ فى انسجامٍ وسلاسة. وتفسيرُ هذا - عندى - هو الكلمةُ التى تُستعمل أحيانًا فى تفسير الشعر: الإلهام. أُلهم العربىُّ وسيلةً سهلة يقتدر بها على توليد ما لا حصر له من الألفاظ هى ما سمّاه بعضُ عظمائنا القدامى من علماء الصرف والنحو "الأوزان". الوزنُ هو القائد، هو الآمِر، وما على اللسان إلا أن يطيع. وهذا شىءٌ يشبه الحاصلَ عند نظْم الشعر. لا يستطيعُ الشاعرُ أن يمارس عملَه عندما تتهيّأُ له البواعثُ إلا إذا جاءه أمْرٌ من الوزن أو من "البحر" كما سماه الخليل. عندئذ فقط يمكنه أن يُحرّك ألفاظه تلك الحركةَ العجيبةَ التى نسميها "الشعرَ" مستعينًا بكل خصائصِ لغته التى نُفِذ إليها وكُشِف عنها ودُوّنتْ فى علوم.
أردتُ أن أُبِين لك عن وجه العجب فيما لحظه ابن جنى، لكنْ كأنى أحلتك إلى ما هو أعجب. ما تلك الأوزان؟ ما حقيقتُها؟ ما طبيعتُها؟ وما نوعُ الحركة السارية فى كل وزن مميزةً له عما سواه، دالّةً على معنًى خاصٍّ يتوخّاه الناطق غيرَ مستطيعٍ العبارةَ عنه إلا بتلك الحركة التى كأنها لحنٌ وما هى باللحن؟ أعنى أن الوزن هنا مغايرٌ للوزن العروضى، اتّحد اللفظان وافترق المصطلحان. مسألةٌ واضحٌ أنها صعبة. وواضحٌ أنها توشك أن تُدخلنا إلى ذلك العالم الغامض، كثيف الغموض، عالمِ الروح. تساءلتُ فى البيان الأول عن سرّ الوزن الشعرى، أو العروض، متوقفًا عند الخفيف:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
قائلًا: ما الذى يُنشئ من هذا الترتيب لحنًا معجبًا. ؟ ثم أعلنتُ عجزى عن الجواب، وكأنى أعلن عجز كلِّ أحدٍ سواى. وهأنذا الآن أكرر التساؤل لكنْ بشأن أوزان الصرف لا أوزان العروض. وأقول لك جازمًا بأننا إذا طلبنا الجواب فى عالم الحسّ، أو الأعيان، أو الخارجات، فلن نجده. مطلوبٌ منك أن تناجىَ روحَك، لعلها تُفضى إليك بشىء.
دَعْ ذا إلى حين، ولنعدْ إلى شيخنا. أخبرنا أن أبا علىٍّ - أستاذَه - كان يرى ما رآه. قال: شاهدتُه غيرَ مرةٍ إذا أَشكلَ عليه الحرفُ، الفاء أو العين، أو اللام، استعان على علْمه بتقليب أصولِ المثال الذى ذلك الحرفُ فيه. قال: "فهذا أغربُ مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق، فإنّ ذلك إنما يُلتزمُ فيه شَرْجٌ واحد مِن تتالى الحروف مِن غير تقليب لها ولا تحريف". قال المحقق: الشّرْجُ الضّرب. يقال هما شَرْج واحد، وعلى شرج واحد، أى ضربٍ واحد. وابن جنى يَعنى بصناعة الاشتقاق الاشتقاقَ الصرفى المعروف. وهو غير الاشتقاق "الأعلى" الذى لحظه وأُعجب به هو وشيخُه. وإليك فرقَ ما بينهما.
"ق.و.ل". ثلاثةُ أصولٍ لكلمة. لشىءٍ يكون. هى ما سماه علماء الصرف بالمادة. لكنها تبقى جامدةً خرساءَ لا تقوى على أن تصير "شيئًا كائنًا" إلا إذا أضيف إلى كلّ منها حركة. أخبرنا سيبويْهِ أن ذلك رأى الخليل. قال: قال الخليل "وإنما البناءُ على الساكن"، يعنى على المادة الأصلية، التى هى هنا "القاف" و"الواو" و "اللام". ألحقَ العربىُّ بكل منها فتحةً فنطقَ الأخرس: قَوَلَ. هذا باعتبار ما يفرضه الوزن، لكنّ العربىَّ باعتبار ما يناسبُ لسانَه كان له رأىٌ آخر. قَلَب الواو ألفًا لانفتاح ما قبْلها؛ وَجَد هذا أيسر، وجعلَه قانونًا فى كل واو أو ياء تتحرك وينفتحُ ما قبلها. فَعَلَ هذا - ربما واعيًا وربما غيرَ واعٍ - لكنّ الذى يعنينا هنا على كل حالٍ هو أنا بإزاء قضيّةٍ ليس فيها أدنى ريبٍ: إن هنا "نظامًا"، أى إن ما نطق به العربى لم يَنطق به سَبَهْللا، أو تأثرًا بشىء ما فى عالم الأعيان، وإنما جاء به استجابةً لتوجيه عُلْوىّ. ولعلّ فى هذا بعضَ ما يفسّر ٍثناء ابن جنّى على "هذه اللغة الشريفة"، وعلى ما أُودعتْه "من خصائص الحكمة". أىْ من الخصائص الدالّةِ على أن العرب أمةٌ حكيمة حباها اللهُ عقلًا قويًّا ووِجدانًا مرهفًا، وعلى أنها ذاتُ ذوق حسّاسٍ خبيرٍ بكل ما هو أنْسبُ وأجمل فى اجتماع الأصوات وتفاعلها.
هذه لمحةٌ عن الاشتقاق المعتاد، ذى الشَّرْج الواحد. أما الآخر الذى هو أعلى فهو أرْوع. "ق.و.ل". بَعْد أن فرغ العربىّ من تصريف هذه المادة حسَبَ المركوزِ فى وِجدانه من أوزانٍ لم يَقْنع. ورأَى فى المادة بابًا لا يزال مفتوحًا لمزيد من التصريف. خطر له - واعيًا أو غيرَ واعٍ - أن يقلّب المادة لينظرَ ماذا بعدُ، فجاءتْه "ق.ل.و"، ثم بدأ بالواو فجاءته "و.ق.ل"، ثم غيّر الترتيب فجاءته "و.ل.ق" ثم بدأ باللام فجاءته "ل.ق.و"، وغَيَّر الترتيبَ أخيرًا فجاءته "ل.و.ق".ثُم غلغلَ فى هذه الجهات السّتّ مشِيعًا فيها جميعًا معنى "الخفوف والسرعة". قال فى توجيه الأصل الأول، وهو القَوْلُ إن الفمَ واللسانَ يخفّان له ويَقلقان، وهو بضدّ السكوت الذى هو داعيةٌ إلى السكون. قال:"ألا ترى أن الابتداء لـمّا كان أخْذًا في القول لم يكن الحرفُ المبدوءُ به إلا متحركًا، ولـمّا كان الانتهاء أخْذًا في السكوت لم يكن الحرفُ الموقوفُ عليه إلا ساكنًا". وقال فى توجيه الأصل الثاني: منه القِلْوُ: حمارُ الوحش، وذلك لخفته وإسراعه. ومنه قولهم" قلوتُ البُسْر والسويق، وذلك لأن الشىء إذا قُلِيَ جفَّ وخفَّ، وكان أسرعَ إلى الحركة". وقال فى الثالث: منه الوَقْل [ويُقال فيه الوَقَلُ والوقِلُ كذلك] للوَعِل، وذلك لحركته. وقالوا: توقّل فى الجبل، إذا صَعَّد فيه، وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. وقال فى الرابع: قالوا: ولَق يلِق: إذا أسرع. وقال فى الخامس: جاء فى الحديث "لا آكلُ من الطعام إلا ما لَؤُق لى، أى ما خُدم وأُعملت اليدُ فى تحريكه حتى يطمئن وتتضامّ جهاته. ومنه "اللُّوقةُ" للزبدة، وذلك لخفتها وإسراع حركتها". وقال فى السادس: منه اللُّقْوةُ للعُقاب، قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها.
ذلك هو الاشتقاقُ الأعلى، وواضحٌ به أن لديْنا هنا "نظامًا" آخرَ يُضافُ إلى النظام السابق. وواضحٌ بهما - وبغيرهما بطبيعة الحال - أن العربية مجموعة من "الأنظمة" التي يحقُّ لنا متابَعَةً لابن جنّى وصفُها بالعُلْوية. أىْ أنها شيءٌ يصعب جدًّا نسبتهُ إلى "الأرض" وما تعجُّ به من مصادفات، أو إلى ما سُـمّى فى علم الطبيعة الحديث بالفوضى الخلّاقة. وإنما هى شىء يكاد يكون معجزة. شىءٌ يؤكّد صحةَ ما قرّره فلاسفةُ ما سُـمّى فى تاريخ الفلسفة بالمذهب العقلىّ، الذي يُقال له بالإنجليزية rationalism فى مقابل ما يقالُ له فيها المذهب الحسّىّ empiricism، وهى الكلمةُ التى كأنّ المترجمين المحْدثين صعبتْ عليهم ترجمتُها فاقترح بعضُهم تعريبَها بــ"امبريقا" أو "امبريقية" وهو لفظ فيما أرى لا يسوغ، ولا حاجة إليه.
والخلاصةُ أن العربية لها على وجه العموم "نظام" ومطلوب إذَنْ من أهلها الناطقين بها أن ينسجموا مع هذا النظام. وهم يُسيئون إليها إن لم يفعلوا، ويسيئون - مِنْ ثَمَّ - إلى أنفسهم. هى نظامٌ فى صرفها، ونظامٌ فى نحوها، ونظام فى عروضها، ونظام فى أساليبها البلاغية. وهذه الأنظمةُ تأتلف جميعًا مُنشئةً روحًا واحدةً تسْرى في ذلك الجسد البديع الذي يُسمى "العربية"، والذى لا يزال حيًّا، وسيبقى حيًّا بإذن الله، وفضله، وفضل مزاياها الذاتيةِ التى أعانتها على الحياة حِقبًا تِلْوَ حقبٍ برغم ما أصابها، ويصيبها، من سهام.
ثَبَتَ إذَنْ بتحليل ابن جنى لمسألة الاشتقاق أن العقل العربىّ مطبوعٌ على أن يكون مُشْرفًا موجِّهًا مهيمنًا، قادرًا على أن يَرى أبْعدَ كأنه زرقاءُ اليمامةِ، أو كأنه فارسٌ قائدٌ أريبٌ مغوارٌ محسن للكرّ والفرّ، بَيْنَا تراه هنا إذا به فى مثل لمحِ البصر هناك. اللغةُ أصوات لا تنبعثُ فى العربية اتفاقًا ولا تُصْدرها اللَّهَواتُ كيفما اتَّفق، وإنما هي دائمًا فى طاعة العقل. ومَنْ أرادها إذَنْ على غير هذا، وسنرى أنها أُريدت على غير هذا، إنما هو إمّا عابثٌ مهذارٌ أو ساعٍ عمدًا إلى شر.
قال قائلٌ منِ كلام مفترَضٍ أنه شعر:
التقتْ أشجارُنا بالرّجم فارتفعتْ على الصندوقِ شاهدةً:
هنالكَ نارُنا السّفلى مُغَذّاةً بأكبادِ النوارسِ
خطوةٌ ويصيرُ نحرٌ لَصْقَ جثتهِ
فماذا أدهش الروحَ
اتّفقْنا والضفائرُ مُثْقلاتٌ بالنتائجِ
هلْ رقابُ المبدعين رهينةٌ؟
تدنو إلى أحداقنا الكُوّاتُ عادلةً:
تُهرِّبُ للخلاءات القريبةِ نارَنا العُلْيا
وتنقبضُ انقباضَ الساترينَ
نوافذى مفتوحه.
وكتب كاتبٌ تعقيبًا على هذا الكلام يقول:
"أعترفُ أن هذا المقطع استَغْلق تمامًا على ملكةِ التخيّل والفهم عندى ... فالأسطرُ تبدو جُملًا منفصلةً منطَلِقَاتٍ في اتجاهاتٍ غيرِ متجاوبة، والصُّور كأنها حُمُرٌ مستنفِرةٌ ... فالمقطعُ كلُّه دالٌّ على ما يمكنُ أن تصلَ إليه الكتابةُ التلقائيةُ إذا تحوّلتْ إلى شطْح يتباعدُ كلَّ التباعدِ حتى عن هدفه الجمالىّ [قلتُ: كأن الجمالَ يمكنُ أن يكون هدفًا للشّطح!] - قال: "ونماذجُ هذا النوع من الشطح الجمالىّ تجسيدٌ لأقصى الطرفِ الذى تَغْدو فيه الحداثةُ مبتورةَ الصلةِ بالمنطق الداخلىّ (الشعورىِّ أو اللاشعورى) اللازمِ لهذا النوع من الكتابة، وإلّا انقطعتْ إمكاناتُ اتصاله بالقارئ".
وهنا يلزمُنا لُبْثةٌ أخرى لِلحْظ أمورٍ في هذا الاعتراف:
الأول أن حكمه بالاستغلاق منطوٍ على تناقض مع حكمه على النص (إذا افترضنا أنه نص) بأنه "جُمل". ذلك أن "الجملة" تعنى الفائدة، ولعل الأستاذ يذكرُ، وهو أحد أساتذة العربية قولَ ابنِ مالكٍ "كلامنا لفظٌ مفيدٌ..."، وما هو "مستغلِقٌ" غيرُ مفيد، وكأنه - بدون أن يفطن- جمَع فى صفة النصّ أنه غيرُ مفيد ومفيدٌ، وهذا هو الجمعُ بين النقيضيْن المقررُ فى علم المنطق أنه ممتنع. وتناقُض كذلك إثباتُه صورًا ليست صورًا لأنها حُمُرٌ مستنفِرة.
والثانى أن ما سماه بالكتابة "التلقائية" إنما هو تجويزٌ أو تشريعٌ للكلام الفارغ. والأصلُ فى الكتابة أنها قيدٌ أو ضبْطٌ للفكر.
والثالثُ: أنه جعَلَ ما سـمّاه بالشطح الجمالى مذهبًا من مذاهب ما سـمّاه بالحداثة. وكأنه مقضىٌّ على أهل هذا العصر الحديث، وأهلِ كل عصر يَحْدُث بعده أن يكونوا من الشاطحين، والحجةُ التى يقيمها الدّجلُ أنهم يبتغون الجمالَ بشطحهم!
دعانى إلى التوقف عند هذا العيب فى هذا المقطع دلالتُه على مرض فشا في الشعر الحديث كله، وخصوصًا فى نصف القرن الأخير، ولولا هذا ما باليتُ، ليس همِّى إلى هذا النص أو ذاك، لكنَّ همِّى إلى الحالة العقلية أو النفسية أو الروحية العامة، هذه الحالة تتجاوزُ الأفراد من حيث هم أفراد لتشتملَ الوجود القومي كلَّه، وهذا هو الخطير؛ ألسنا أبناء أمة؟ ألستُ أنا وأنت جزءًا من كلٍّ مفترض أن يكون قائمًا، وأن يكون وجودًا متمامسكًا قويًّا عزيزًا؟ تلك هى المسألةُ التى قلتُ مستهَلَّ هذا البيانِ الثانى أنها هى التى تعنينى، لا تقصيرٌ هنا وتقصيرٌ هناك من شاعر، أو غفلةٌ هنا أو غفلةٌ هناك من كاتب أو ناقد، هذا الغموضُ المتكاثف في الفكر الحديث كله لا فى الشعر الحر وحده صار كأنه شىءٌ مُرادٌ، لا شىءٌ جاءتنا به مصادفةٌ عمياء أو تفاعلات اجتماعيةٌ ماديةٌ خالصة. ولك أن تقول إذَنْ إنه "ظاهرةٌ" سياسيةٌ لا ظاهرةٌ فنية.
ظهرَ ما يشبهُ هذا النوعَ من العيب فى الحياة العربية قديمًا، زمنَ البعثة النبوية المباركة، لـمّا خطرَ لنبىّ كذّاب إمكانَ أن يَروجَ كذبُه عند عربِ زمانه، وعُرِض كلامه على أبى بكرٍ رضوانُ الله عليه فردّ المكرَ ردًّا حاسمًا قاطعًا بكلمة واحدة؛ قال لهم: ‘ويحكم! أين يُذهبُ بكم، هذا كلامٌ لا يخرجُ مِن إلّ.’ قلتُ للإلّ معانٍ متعددة، لكنّ السياق دالٌّ دلالةً واضحةً على أن المعنى الذى يستقيمُ معه هو "العقل". وكأن أبا بكرٍ أراد أن يقول للعرب: إن القرآن على النقيض. أَعملوا عقولكم تعرفوه. قلتُ: وكانوا مُهيئين للتجاوب مع هذا المطلب لأنهم كانوا أهلَ شِعر، أعنى أهلَ عقل. للشعر عندهم شرطٌ أولٌ، أو حدّ أولٌ، أو عمودٌ أولٌ هو العقل. وذلك بيِّن في اللغة كلّها، نثرها وشعرها وقرآنها.
ولا يخلو زمن - بطبيعة الحال، أى بحكمِ ما طُبع الناسُ عليه - مِن قلة العقل. لكنّ هذه الحقيقةَ العامةَ لا ينبغى أن تُطمئنَنا، لأن الذى نحن فيه فى هذا الزمن مختلف. إنه ركونٌ إلى التسيّب واستنامة له، حتى لكأن الناسَ فى خَدَر. وإلّا فكيف جاز للكتابة ‘التلقائية’ أن تكون "مذهبًا" عند أناس مفترضٍ أنهم عقلاء؟!
والسؤالُ الصعبُ الآن: ما الذى هَيّأ لهذا العيب المدمِّر أن يوجَد، وأن يتمكن؟ الجوابُ عندى، وعند كل ناظر متأمّل فيما سبق، لا مناص من أن يكون منوطًا بنشأة تلك الطريقة التى جدَّتْ على نظم الشعر فعَدَلتْ به عن البيت الذى له أولٌ معلوم وآخِرٌ معلوم إلى "تفعيلة" تنطلق بلا رَسَنٍ ثم تمضي إلى حيثُ تَدفع بها ريحُ المصادفة وإغراءاتُ الأصوات أو أجراسِ الأحرفِ، ثم لا تكون النتيجةُ بعد هذا التفلّت إلا ضَعفَ القدرة على الضبطِ وكبحِ الجماح والقيادةِ الرشيدةِ للفكر الشعرىّ. لا مناصَ، ويندرُ جدًّا أن تجدَ من يفلحُ فى النجاة من هذا الوبال. ثم يقع هذا النِثَارُ بين يدىْ الناقد فيقلّبه ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال راجيًا أن يحصل على معنًى فلا يجدُ إلا أوشالًا، ويُضطر عندما تعجز "ملكة" التخيّل والفهم عنده عن الاستيعاب إلى "الاعتراف" بالعيب متظاهرًا بإيثار الإنصاف.
ما الذى شقّ اللغةَ - وهى فى الأصل شىء واحد بطبيعة الحال - شِقّيْن، فصارت إلى نثرٍ وشعر؟ الجوابُ القديم والذى سيظل صحيحًا عندنا على الأقل هو "الوزنُ والقافية". بهما وقعت الفُرقة البيّنة. وهذا واضح. أمّا غيرُ الواضح فهو كيف كان ما كان؟ فى حوالىْ ألف وثلاثمئةِ صفحةٍ حاول السودانيّ عبدالله الطيب أن يجيب، لكنه - واأسفا - ضلّ، لأنه رفض القول بالفطرة وانحاز انحيازًا كاملًا إلى تفسير حسيّ مادىّ. وهو رجل ذو علم واسع باللغة، وصاحب شعر كذلك، فهو لهذا مستحق للاهتمام وفحْص ما يزعم، وقد أسرف جدًّا في ذهابه إلى أن العروض العربى وافد من اليونان، مستندًا إلى رأى خاطئ  أن العروضيْن ينتميان إلى ضَرْب واحد يُوصَف فى علم اللغة بالكمّى. وقد رددتُ عليه في مقامٍ آخرَ، فلا حاجة إلى تكرار القول.
لكن الذى يعنينا من ذكره هنا ما نحن فيه من النظر في مسألة الشعر الحر، وعلاقتها بالعقل العربى من جهة، وبالسياسة العربية من جهة أخرى، وإن كانت الجهتان عندي جهةً واحدة، أو كأنها كذلك.
السؤالُ الصعبُ، وما أكثر الأسئلةَ الصعبة، مِن أين جاءنا الوزن والقافية؟ وإن اعتمدنا القول بالفطرة، فما حقيقة الفطرة؟ وكيف أمكن لها أن تئول إلى لغة ذاتِ قَوام بديعٍ قائمٍ على "أنظمة" متعددة - كما قلنا من قبل - اتّحدت فى "نظام" شاملٍ سرى في كل جوانبها وهيّأ لها أن تكون مُلهِمة للعقل العربى إلهاماتٍ متنوعةً ذاتَ نتائجَ مشهودٍ لها بالعظمة حتى من أعداء العربية؟ واجهتُ المسألة في البيان الأول، مستشهدًا بالخفيف، أنه لحن فذّ. لم أقصد الخفيف من حيث هو، بل قصدت كل بحر يشبهُه من البحور المتغايرة التفاعيل كالطويل أو البسيط على سبيل المثال. ظنًّا منى أن تفسيرَ الجمال الموسيقىّ مع التغاير أصعبُ منه مع التماثل، لظهور التكرار مع الأخير وعدم ظهوره مع الأول. أَثَرْتُ المسألةَ وتركتُها بلا حل، معتذرًا بأنها "رُوحية"، وأن الرُّوح من أمر الخالق. ومرّت أعوام وأعوام والمسألةُ باقيةٌ على غموضها. ومع اعترافى بأنها لا تزال غامضةً وجدتُ عندى بعض الضوء.
هنا يلزمنا وقفةٌ مع مصطلحٍ مألوفٍ فى علم الموسيقا غيرِ مألوفٍ فى علم العروض: الإيقاع.
جاء فى "اللسان": "الإيقاعُ مِن إيقاع اللحن والغناء. وهو أن يُوقِعَ الألحانَ ويبيّنَها. وسَمَّى الخليل رحمه الله كتابًا من كتبه في ذلك المعنى "كتابَ الإيقاع". واضح من هذا أن الكلمة مستعملةٌ في لغتنا من قديم. لكنْ ليس بين أيدينا كتاب الخليل فى العروض، ولا كتابه في الإيقاع. وعلينا إذَنْ أن نُعمل الاستنتاجَ بقَدْر الإمكان لنعرف شيئًا يُطمأنّ إليه عن طبيعة الإيقاع. تدلّنا قواعد الاشتقاق فى التصريف العربى على أن الكلمة مصدر ‘أوْقعَ’ أو ‘أفْعلَ’ الثلاثى المزيد بالهمزة. أمّا المجرّد فهو "وَقَع" الذى يجئُ مباشرةً من المادة الأصلية الثلاثية، الواو والقاف والعين، والذى مصدرُه ‘وَقْع’، والوقعُ، لغةً، هو الأثَرُ الذى يُحْدثه الصوت مطلقًا وينقُله العَصَبُ إلى الوِجدان. وهذا لا يَعنينا هنا، وليس يعنينا كذلك الصوت اللغوى لأنه مبحثٌ متعلق بعلم الأصوات. إنما الذى يعنينا الآن فهو ما يمكن أن يُسمى "الصوتَ الشعرى". أى الصوت الذى هو أول الشعر. هذا الصوت الشعرىّ منصوصٌ عليه في كل كتب العروض. يقول التبريزىُّ مثلًا: الشعرُ كلُّه مركّبٌ من سبب ووتِد وفاصلة". هذه هى أجزاءُ الشعر الأوائل. وكلٌّ منها مركّبٌ من سكوناتٍ وحركاتٍ متضامّةٍ فى كتلة صوتية واحدة. هذه الكتلة وَصَفَهَا "الشريف الحسينىّ" - رحمةُ الله عليه - وصفًا دقيقًا بقوله إنها لا "تتبعّض"، يعنى لا تتجزّأ، وإنْ كانت مركّبة من أجزاء، يعنى أنّ تجزُّءَها أو أجزاءَها تَعنى الناظر فى علم الأصوات ولا تعنى الناظرَ فى علم الشعر، الذى هو العروضُ فيما نحن بصدده. هذه الكينونةُ، أو الكينوناتُ، لكلّ منها وقعٌ فى الأذن العربية، وربما في غيرها أيضًا أحيانًا. فإذا طلبْنا صفةً لهذا الوَقْع مستقلًّا مجرّدًا فماذا نجد؟ أعنى عندما ‘نعلو’ - ولنذكرْ ما جاء فى ‘ابن جنى’ عن ‘العلوّ’ فيما سبق - متجاوزين الدلالةَ اللغوية للألفاظ الممثِّلة لتلك الأجزاءِ الأوائل. نجدُ السبب الخفيف كأنه نقرةٌ واحدة، ‘تَمْ’ - لكنّ لها تميّزَها مع كونها واحدةَ - ونجد الوتِد المجموع نقرتين على نحو خاص ‘تَتَمْ’، ثم نجد الفاصلةَ الصغيرةَ ثلاثَ نقَراتٍ على نحو خاص‘تتتمْ’. وكأننا نصغى حنيئذٍ إلى ‘موسيقا’ خالصة. لكنّ هذه الموسيقا التى كأنها خالصةٌ ليست هى الشعر. إن الشعر مختلفٌ جدًّا. وإنما هذه الأجزاء الأوائلُ مقدّمة ليس إلا له، أو تمهيدٌ يشبه فى وظيفته وظيفةَ الحرف المتحرك - مجتمِع السكون والحركة - فى كونه - كما قال صاحب الخزرجية - أولَ النطق. وإنما هى الشرطُ الأول للشعر. ولما كانت اللغةُ برمّتها هي ما بعد الحرف المتحرك، فكذلك الشعرُ برمّته هو ما بعد السبب والوتِد والفاصلة.
هل آنَ الآنَ بعد هذا القدْر من التفصيلِ أوانُ تعريفِ الإيقاع، أعنى الإيقاع في الشعر العربى؟ فلنحاول.
"الإيقاعُ أثرٌ سائغٌ واقعٌ فى الوِجدان تحدثه كتلةٌ صوتيةٌ منطوقةٌ، ذاتُ مدىً يضيق حينًا حتى يكون بقدْر السبب الخفيف، ويتسع حينًا حتى يكون بقدْر بيتٍ من "الطويل"، أو مما يضارعُه طولًا". لكنّ هذا لا يكفى لأنه يُغْفل "القافية" وفِعْلُها في اللحن أو الإيقاع لا يقلّ خطرًا عن فعل الوزن. ثم إنه يُغْفل كذلك الأثر الحاث من توالى الأبيات المقفّاة منشئةً بنيةً ذاتَ وقْع إجمالى مضافٍ عند نهاية المطاف إلى وقْع كل بيتٍ على حِدَة.
وصدق الذي قال"الشعر صعب"! ومن صعوبته أن تعريفنا قد يَرِدُ عليه استدراك. فممّا يُؤخذ منه أن النثر أيضًا قد يكون له ضَرْب من الإيقاع، إذْ إن الأجزاءَ الأوائلَ داخلةٌ بالضرورة فيه وكلّ منها إيقاع. والردُّ أنه لا بأس بهذا. إن هذا الضرب من الإيقاع النثرى إحدى مزايا العربية، لكنه لا يرقى إلى الإيقاع الشعرى، لأن الإيقاع لا يكون شعرًا إلا إذا آلت الأجزاء إلى "نمط"، أى إلى رسم يَـمْثُلُ فى المخيّلة قادرٍ على أن يهزّ النفس هزًّا يحسّه كلُّ ذى حسّ. وأقصى ما يمكن أن تئول إليه الأجزاء الأوائل أن تتركّب بحيث تنشأ مِن تركّبها الأجزاء الثوانى، التى هى بمصطلح العروضيين "التفاعيل"، والتفعيلةُ مستقلّةً إيقاعٌ، هذا أمرٌ لا شك فيه، يمكن تَبيُّنُه بالنقر، لكنها كذلك لا تقْوى على أن تئول إلى نمطٍ ما بقيتْ عُرضةً لفوضى النثر. فى النثر يمكنك أن تجمع بين "فعولن" و"مستفعلن" مثلًا، لكن الأنماط الشعرية تأبَى هذا الجمع. والأنماطُ الشعرية هي المنصوصُ عليها فى علم العروض، المسمّاةُ بالبحور، والقابلةُ لأن يُضاف إليها غيرُها بالاختراع.
والسؤالُ الآن ما معيار النمطية، بمَ نُثْبت نمطًا ونَنفى آخر؟ والجوابُ الذي أوقِن أنه لا جواب غيرُه، والذى قد يرى العقل التحليلىّ أو الرياضىّ أنه غير كافٍ، هو "الذوق" أو "الفطرة" التي ردّها عبدالله الطيب ردًّا لم يكن يليق به، مُؤْثِرًا عليها الزعمَ بأن العرب استعاروا أنماطهم أو بحورهم مِن يونان.
وبقىَ شىءٌ فى مسألة الإيقاع مهم جدًّا. يقالُ إن من خصائص الإيقاع التكرار. والعربية لا تأبَى هذا القول. إن الناظرَ المتأملَ فى مشتقّات مادة "وقع" يمكنه أن يلحظ فى يُسْر صفة التكرار. جاء فى "اللسان": يقالُ سمعتُ وقع المطر، وهو شدةُ ضرْبه الأرضَ إذا وَبَل. ويقال سمعتُ لحوافرِ الدوابّ وقعًا ووقوعًا. ووقيعةُ الطائرِ، وموقَعته - بفتح القاف - موضعُ وقوعه الذى يقع عليه ويعتادُ الطائرُ إتيانَه. والتوقّعُ تنَظّرُ الأمر ..." وهذا المعنى المستنبَط استنباطًا فى العربية منصوصٌ عليه نصًّا فى غيرها. جاء فى معجم ‘وبستر’ مثلًا فى تعريفِ الإيقاع [راجعْ مادة rhythm] إنه ‘تعاقبٌ متكررٌ منتظم ...’
ما الذى يتكرر، وكيف؟ النظرةُ العجْلَى لرسوم الأبحر في كتب عروضنا توحى بأن هناك شيئًا مّا يتكرّر. فلننظرْ - على سبيل المثال - فى محاولة الجواب في البحر البسيط:
مستفعلن فاعلن مستتفلعن فاعلن
هذه صورته في الدائرة. أىْ هذه صورتُه الأصلية. وواضحٌ من الرسم تكررُ "مستفعلن" وتكررُ ‘فاعلن’. وإذا صحّ أن التكرار من خصائص الإيقاع فإن هذا الرسم الذى بين أيدينا مُعبّر عن إيقاع لا شك فيه، لكن هذا اليقينَ ينهارُ بالنظرة المتأمّلةِ فى تاريخ الشعر العربىّ كلّه. إنّا لا نجدُ فى ذلك التاريخ العريق بيتًا واحدًا يمكن أن يَصْدقَ عليه هذا الرسم فى انتظامه الحسابىّ الدقيق([1]). أمّا الإيقاعُ الحقُّ فصورتُه الحقُّ هى ما يلى:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلنْ
هذه هى الصورة التى اعتمدها الشعراءُ العرب طَوالَ الحقب المتوالية منذ الجاهلية حتى اليوم. وهى شاهدةٌ على انهيار التكرار بسقوط الثانى الساكن من التفعيلة الأخيرة، أو ما يُعرف عند أهل العروض بالخبن. والسؤالُ الآن الذى يصعب جدًّا جوابه هو ما الذى فَعَلَه ذلك التغييرُ الهيّن جدًّا فى هذا الرّتلِ الصوتىّ فقَلَبَه من "ثقيل" جدًّا إلى "سلِسٍ" جدًّا؟!
أليس هذا غريبًا؟! والأغربُ أن التكرارَ يغيبُ أحيانًا غيابًا باتًّا ولا يغيبُ الإيقاع أو "الوزن". خُذْ مثلًا مُخلّع البسيط "مستفعلن فاعلن فعولن". فهذه كينونةٌ عروضيةٌ سائغةٌ لا ينبو عنها الذوق. ومع ذلك فهى جماعُ ثلاثِ تفعيلات كلٌّ منها قائمٌ برأسه. فإذا قلنا إن ‘الكامل’ مثلًا تنشأُ موسيقاه من تكرار "متفاعلن" فمِمَّ تنشأُ الموسيقا فى ‘المخلّع’ وقد تخلّع. كيف صار كينونةً واحدةً وهو كما يدلُّنا الرسمُ كأنه يسير على هواه بلا رسن؟!
ومما يَلحق بالتكرار فى مسألة الإيقاع ما يُسمّى بالتناسب، أو التجاوب. رأى بعض النّظّار المحْدثين فى العروض أنه إحدى خصائص الإيقاع. مثال هذا زعْمُهم أن إيقاع ‘الطويل’ مثلًا قائمٌ على قسمته إلى:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
أو إلى التطابق بين التفعيلة الأولى والثالثة، وبين الثانية والرابعة. أو بين التفعيلتين الأولى والثانية مجتمعتيْن، والثالثة والرابعة مجتمعتيْن.
أو إلى كون الوتِد المجموع قائمًا أولَ كلّ تفعيلة.
يُبطل الزعميْن الأولَ والثانىَ أن الطويل، كما يدلّنا تاريخ الشعر العربىّ كلّه عروضُه مقبوضةٌ دائمًا. أى أنّ صورتَه فى الاستعمال - ولا عبرةَ بالتصريع أولَ القصيدة إنْ وُجد:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
أى لا تطابق بين الثانيةِ والرابعة.
ويُبطل الزعمَ الثالثَ أن القسمة العروضية المقرّرة للطويل ممكنةٌ لا واجبةٌ، أعنى يمكن أن ينقسم البحر قسمةً أخرى مخالفةً لكنها صحيحة، فيُرسم البحرُ كما يلى:
فعولن فعولن فاعلاتن مفاعلن
وفى هذا الرسم الصحيح بلا شك يتخلّف الوتِد فى الثالثة ليحلَّ محلَّه سببٌ خفيفٌ. وإنّك لَرَائِيهِ متحّقّقًا فى مطْلع جيمية ابن الرومى:
أمامَكَ - فانظرْ أىَّ نَهْجَيْكَ تَنْهَجُ


طريقانِ شتَّى، مستقيمٌ وأَعْوَجُ

وتقطيعه على الرسم غير المعهود:
أمامكَ فانظرْ
أىَّ نهجَيـْ
كتنهجُ
طريقانشتَّى
مستقيمٌ
وأَعْوجُو
فعولُ فعولن
فاعلاتن
مفاعلن
فعولن فعولن
فاعلاتن
مفاعلن
وإذَنْ نَخْلُصُ من هذا القدْر من النظر فى المسألة إلى أن الإيقاعَ فى الشعر العربىّ لا عَلاقةَ له بالتكرار ولا بالتناسب. وإنما هو شىء يَصْدُقُ عليه ما ارتآه ابن رشيق في مُفتتح "العمدة". قال:
"ليس للجودة في الشعر صفةٌ، وإنما هى شىءٌ يقع فى النفس". وأقول محاكيًا:
ليس للإيقاع في الشعر صفةٌ، إنما هو شىءٌ يقع فى النفس. ولن يستطيع تحليلٌ مهما دقّ أن يكشفَ عنه إلا القشورَ. ولا تَعْجَبْ؛ مُلْك الله كلُّه عَجب. أمّا إذا راعكَ ما قلتُ فأنصحكَ أن ترجعَ إلى كتاب "فلسفة الرياضة" لمحمد ثابت الفندى، وهو أستاذ متخصّص فى علم الرياضة والفلسفة. عُنى - ضِمْنَ ما عُنى به من مسائلَ رياضية، بدرْس نشأة ‘العدد’ فى العقل، وبعد أن طوَّف مع آراء العلماء في الموضوع عَرَض لرأى رياضىّ ألمانىّ كبير هو "كرونكر" لم يَرْضَ عنه. قال كرونكر إن العدد تنزّل إلى عقل الإنسان من عند الله. قال الفندى هذا لاهوت. وبهذا نُفِى الرياضىّ الكبير من عالم الرياضة كأنه ليس رياضيًّا وليس كبيرًا. أجدنى موقنًا بأن الألمانىّ لم يقل ما قال إلا بعد نظر فى كلّ الوجوه المحتملة للتفسير ورأَى فى كلٍّ منها شيئًا من النقص أو العيب دفعه دفعًا إلى ذكر الله عز وجل.
لا أقولُ هذا ظنًّا، بلْ أقولُه يقينًا، ودليلى كتابُ "الفندى" نفسُه. أخبرنا فى ختام كتابه أن الفرنسىَّ ‘بوانكاريه’ حَكم بأنه لا سبيلَ إلى التوفيق بين الآراء المتصارعة فى ميدان علم الرياضة بشأن مسائلها العويصة، لأنه لا سبيل إلى التوفيق بين أصحاب المذهب العقلى وأصحاب المذهب الحسّىّ [راجعْ ما سبق بشأنهما]، وبوانكاريه الذى قرّر هذا أحدُ كبار علماء الرياضة والطبيعة فى العالم؛ وَصَفه كاتب سيرة "أينشتين" بالعظيم بوانكاريه، مع أنه ظل حتى مات معارضًا نسبيّةَ أينشتين، وهو إذَنْ رجلٌ لا يُستهان برأيه، لكنْ يبدو أن الرياضىَّ المصرىَّ لم يُولِهِ ما يستحق من اهتمام، ولولا هذا ما استخفّ بما قاله كرونكر، لأن ما قاله الألمانىّ والفرنسىُّ شَرْجٌ وَاحِدٌ - إن جاز لنا استعمالُ كلمة ابن جنىّ هنا. أى أنهما يَصْدران عن رؤيةٍ ثاقبةٍ واحدةٍ؛ المادةُ موجودةٌ، هذا مُسَلَّم، وكلّ ما هو مادىّ يقْبلُ التحليلَ المادىَّ، أو الحسّىَّ، إلى أجزائه الأوائل، لكنْ ما العملُ إذا كان ما نحن بصدَده غيرَ مادى، حينئذٍ يُخْفِقُ التحليل فى الوصول إلى جَدْوى.
هذا هو ما نحن فيه فيما يتعلق بقضايا الشعر العربى، واللغة العربية على وجه العموم. هناك ما يجرى على الألسنة، وهو مادة، لهذا يَقْبل التحليل وقد حُلّل تحليلاتٍ دقيقةً كلَّ الدقة عبّرتْ عنها علومُ العربية أبْلغَ تعبير، لكن العلماءَ العربَ، فى رؤية ثاقبةٍ، أبصروا الشاطئ الآخر وأدخلوه فى اعتبارهم وهم ينظرون إلى المادة ويُجيلون فيها حِسَّهم، ساروا معها حتى أسلمتهم إلى الأصل الأصيل ووَلَجتْ بهم عالم الروح، فانكشف لهم مِن أمر اللغة والشعر ما لم يكن منكشفًا إلا بتلك الرؤى الثواقب فى أصول الكلِم، وأصول النحو، وأصول العروض، وأصول البلاغة.
رأى العقلُ العربىّ، أو العلمُ العربىّ، أن المادةَ لا غنى عنها، أو عن تحليلها فى محاولة فهم العالم، وحلّلها، وكان من نتائج التحليل أو التحليلات أن عَرفت الثقافة العربية نهضة فى علوم المادة، كالطبيعة والكيمياء والأحياء والطب، وكذلك فى علم الرياضة والفلك، وهى النهضة التى يُقر علماءُ الغرب بأنهم أفادوا منها، وأنها كان لها الفضل فى استنقاذ العالم الغربى من ضلالات العصور الوسطى، أو عصور الظلام كما سَـمّوها.
وكان من علوم المادة عند العرب كذلك "علم الأصوات اللغوية"، الذى أعملوا فيه التحليل وبلغوا فى دقته أن وصلوا إلى نتائج ومعرفة لم يصلْ إليها الغربيُّون إلا عن طريق المعامل. أَعْمَلَ العربُ الحِسَّ، لكنهم أعملوا معه العقل، وبهذا رأَوا فى العربية أمورًا صحيحةً لم يستطعْ غيرهم رؤيتها، وتحاشوْا أخطاءً لا تزال قائمة فى أذهان المستشرقين لا تريد أن تزول. مِن ذلك أن الألمانى ‘فايل’ مُصِرٌ على أن الوتِد المجموع جزآن، أولهما ما يُسمى بالمقطع القصير والثانى بالمقطع الطويل، وهو غلطٌ شنيعٌ وجهلٌ بطبيعة العربية وطبيعة الشعر العربى مُطْبِقٌ. على حين أن عروضيًّا عربيًّا فذًّا هو الشريف الحسينى نصّ على أن الأجزاء الأوائل للشعر العربى، أى السبب والوتِد والفاصلة، لا تتبعّض، منذ زمان بعيد. أىْ أن كلا منها وَحدة قائمة برأسها برغم تركُّبها من أجزاء.[راجع: العيون الغامزة]
ليس "فايل" وحده هو المصر، بل يُصر معه المستشرقون جميعًا، قدماءَ ومحدثين. بيْن يدىّ الآن كتاب مترجم عنوانه "التراث اللغوى العربى"، لثلاثة من المستشرقين المحدثين، شاهدٌ على تخبطهم وحيرتهم بشأن الموضوع. عالجوا العلم فى الفصل السابع مصرّحين فى بدايته بأنهم يحاولون "تفهّم" ما سمّوه بنظرية العروض العربىّ، مقرّرين أنه يبدو ‘مُربِكا’، واعتلُّوا بأنه لم يلجأ إلى "مفهوم المقطع" و"لم يستعنْ بمفهوم النبر الوزنىّ (الارتكاز). وقد أَزعج هذا الأمرُ كثيرًا من الناس". ولـمَّا أرادوا أن يتخلّصوا من ‘الإزعاج’ قطّعوا "فاعلاتن" - مثلًا - إلى "فا/عِ/لا/تُنْ بدلًا من فا/علا/تُنْ"، وهو تقطيع مفسد للوقع أو الإيقاع أو الوزن أو البحر إفسادًا بيّنًا لكل ذى ذوق، وهو مضيّع - مِن ثَمَّ - للجمال الذى هو غايةُ الشعر. أمَّا مسألة "النبر" فقد أشبعناها بحثًا فى غير هذا المقام.
يجبُ أن يكون المحلّل على ذُكْر دائمًا من أنه يحللُ أصواتًا منطوقةً فى "شعر" لا أصواتًا مجردة. الأصواتُ المجردةُ تأتينا بصفات للحروف، لكنّ الذى نحن فى طلَبه صفاتُ العناصر المؤسسة للشعر. قال أبو العلاء "نبِّئانى"، فما الذى نطقَ به فى بيته؟ وما الذى يسمعه من يقعُ فى سمْعه ذلك البيت؟ /نَبْـ/ هذا هو القسمُ الأول الذى يفرض نفسه فرضًا على المتذوّق - محلِّلًا أو غيرَ محلِّل - وهذا القسم الأول مستحيلٌ أن يتبعّض، فينفصلَ الحرفُ المتحرك عن الحرف الساكن، لا فى شعر ولا فى غير شعر.ثم إذا تقدّمتَ وجدت نفسك مجبرًا على النطق بالوتِد المجموع مجموعًا /بئا/ أى كتلةً صوتيةً واحدة، يصدقُ عليها ما صدَق على السبب الخفيف الأول، أى لا تَبَعُّض. وإذا زعم المستشرقُ أن الذى جاء به ليس خطأً لأنه مقررّ فى علم "الأصوات" قيل له: المقرّرُ فى علم الأصوات "عام"، ونحن عند النظر فى الشعر وشأنِه فى طلَب "الخاص". ولا يستقيم النظرُ إذا أُهمل الفرقُ بين العموم والخصوص. بلْ قد يؤدى ذلك الإهمال إلى ضلالاتٍ إحداها ما وقَع فيه "فايل" ومَن لفّ لفَّه من العَرَب المحدثين. نحن فى الشعر نبغى إدراكَ "اللحن" لا إدراكَ صفةِ الحرف. ولأن الشعر غيرُ النثر وَجَبَ اختلاف القسمتيْن. القسمة "الأصواتية"عامة، أما القسمة "الشعرية" فأمْرٌ يخصّ تلك اللغة الخاصة التى نسميها لغة الشعر، والتى يميّزها فى كل لغات الأرض أنها موزونة، أى قائمة على ضرْب مّا من ضروب الإيقاع، أساسُه الأولُ فى العربية السببُ والوتِد والفاصلة، وليس ما سمّاه علماءُ الغرب، وعلماءُ الأصوات، بالمقاطع القصيرة والطويلة. قلتُ "فى العربية"، أى فى اللغة كلها، شعرًا ونثرًا، لا فى لغة الشعر فقط. وهذا أحدُ أسرار العربية، بل ربما كان سرَّها الأعظم، أو قانونها الأول، الذى هو - عندى - لا تفسير له إلا أنه صيغ فى "السماء" لا فى ‘الأرض’، أنه - كما قلتُ فى البيان الأول - من أمْر الخالق. أمَر اللهُ العربى بأن ينطق هكذا: أن يجمع بين السكون والحركة فيما سمى بالحرف المتحرك. ثم أن يجمع بين الحرف المتحرك والحرف الساكن فيما سمى بالسبب الخفيف. ثم أن يجمع بيْن حرفين متحركين وثالث ساكنٍ فيما سُمّى بالوتد المجموع، ثم أن يجمع بين ثلاثة أحرف متحركةٍ ورابعٍ ساكن فيما سُمّى بالفاصلة الصّغرى. وهكذا سائرُ الأوامر التى أنتجت أجزاءَ اللغة الأولى، والتى حَصَرَها علم العروض فى ستة. وأنت الآن مدعوٌّ لأن ترفع عنك غِشاوةَ الإلْفِ وتتأملَ هذه الإلزامات، لتوقن باستحالة أن تكون ناشئة من "الحِسّ" أو مِن فعل مصادفة مّا، ولتوقن أيضًا أن مسألة "الشعر الحر" أبعدُ من أن تكون مجردَ دعوى "أدبية" أو "نقدية"، مما اعْتيد تسميته بقضايا النقد والأدب. إنها مسألة اللغة العربية فى الصميم، شعرها ونثرها. وعليك أن تذكرَ كلمة "أبى على" لصاحبه "ابن جنى" بشأن مسألة التوقيف والوضْع لـمّا قال له قاطعًا إن العربية "من عند الله"، وأن تضيفها إلى رأى "كرونكر" و "بوانكايه" حديثًا، وإلى رأى "إفلاطون" قديمًا. وعليك أن توقن أخيرًا بعد النظر المتأمل فى هذا كله أن لغتنا وُجدتْ لتبقَى، وأن شعرها الذى صابَر الزمانَ ألفىْ عام على الأقل إنما هو كذلك وُجدَ ليبقى. وأن شيوع الشعر الحر فى العالم العربى المعاصر إنما هو غاشيةٌ فى طريقها حتمًا إلى الزوال. قلتُ إننا فى الشعر نبغى إدراك "اللحن"، أو الإيقاع. ولكنى قلتُ كذلك استدراكًا على مقرّرات العروض إن الأجزاء الأوائل، السبب والوتد والفاصلة، هى أساس الإيقاع الأول فى اللغة كلها لا فى الشعر وحده، أى إن هذا الإيقاع الأول "عام"، وإذَنْ وَجَبَ السؤال عن الإيقاع الأول "الخاص" بالشعر. علينا لنصل إلى الجواب الصحيح أن نستبعد كلّ ما هو "عام" لنرى ماذا يبقَى عندنا. أما الأجزاء الأوائل المنصوصُ عليها فى العروض فهى "عامة" بلا ريب. خُذْ مثلًا قوله تعالى - ومن المقرّر أن القرآن نثر -  أولَ سورة "الإخلاص": "قُلْ هو اللهُ أحد"، مثلًا للغة كلها، فماذا نرى؟ إننا نرى فى وضوح باهر قابلية الآية لأن تُحلّل إلى إيقاعاتنا الثلاثة: "قُلْ" "هُوَلْـ" "لا" "هُأَحَدْ". القسمُ الأول يعادل السبب الخفيف، والثانى يعادل الوتِد المجموع، والثالثُ يعودُ بنا إلى السبب الخفيف، والأخير يعادل الفاصلةَ الصغيرة. وإذَنْ هذه الإيقاعاتُ الثلاثةُ ليست مطلبنا لأنها لا تخصُّ الشعرَ وحده.
ثم إننا نجد شيئًا آخرَ بعْدُ، أن هذه الإيقاعات الثلاثةَ قابلةٌ لأن تجتمع على أنحاءٍ مختلفة فيما سُمّى فى علم العروض بالتفاعيل، وهى التى نُصّ فى العلم على أنها ثمانيةٌ فى قول أو عشرة فى قول. هذه التفاعيل هى كذلك إيقاعات، بل إن "الإيقاعية" فيها أوضح منها فى الأجزاء الأوائل. ويسيرٌ علينا إدراكُ أن هذه الإيقاعات المتولّدة من بطن الإيقاعات الأوائل هى كذلك "عامة". ولنرجعْ إلى سورتنا: "قُلْ هُوَ لْلا"، فهذه كتلةٌ صوتيةٌ تعادلُ "فاعلاتن". ثم يبقى لنا من الآية ما يعادل الفاصلة الصغرى "هُأَحَدْ". ويمكنك أن تتابع السورةَ وكلَّ سورة، وكلَّ كلام عربىّ على هذا النحو من التحليل ليثبتَ عندك أن هذه الإيقاعات الثوانى هى كذلك "عامة". ها نحن أولاء نرى أن هذين النوعين من الإيقاع ليسا من "خصَائص" الشعر. ولم يبْق لنا إذَنْ شىءٌ ننظرُ فيه لنصل إلى بُغْيتنا إلا الشعر نفسه. وأنت هنا مدعوٌّ لأن ترْنوَ وأن تطيلَ الرُّنوّ - أعنى بعقلك - فى أى بيتٍ تجعلُه موضعًا للفحص من أجْل اكتشاف الصفة الإيقاعية المميّزة للبيت، والمميزة مِن ثَمَّ لكل بيت مناظر. ولنضربْ مثلًا البيت الشهير:
قِفا نبْكِ مِن ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ...
يخبرنا العروضيّون أنه قابل للتحليل، أو بلغتهم، للتقطيع على الصورة الآتية:
قِفا نَبْـ
كمنذِكْرا
حبيبن
ومنزلى
فعولن
مفاعيلن
فعولن
مفاعلنْ
والسؤالُ المهم الآن الذى دعانى إلى أن أطلب منك أن تكون شديد الانتباه فى نظرك هو؛ ما الذى نخرج به من هذا الرسم؟ إن لديْنا سلسلةً صوتية افتُرض أنها تتكون من حَلقاتٍ غيرِ متساوية. أذكّرك بما قلته فيما سبق بشأن التكرار والتناسب، ثبت أنهما غير مؤثريْن فى الإيقاع. وإذَنْ لسنا بإزاء تكرار أو تناسب ولو كان أحدهما هناك ما كان له فِعل، فما الذى نحن بإزائه؟ وما الذى له فِعل؟ قلتُ لك فى بداية هذه الكلمة التى كأنها طالت إننا ننظرُ فى مسألة لا مناصَ من أن ننتهى فيها إلى قرار. فاعلمْ الآن أننا نوشك أن نبلغ غايتنا. والآن مطلوبٌ منك أن تتجاهل علمَك بالعروض، وبكل ما يقال له "تفاعيل"، وأن ترتفع لترى ما ليس فى رؤيته أدْنَى خلاف.
لديْنا عبارةٌ. ولديْنا إجماعٌ عمرُه ألفا عامٍ، على الأقل، على أن هذه العبارةَ "شعر". فعليْنا بَعْدُ - اعتبارًا واحترامًا لذلك الإجماع القديمِ الحديثِ - أن نسأل علماءَنا طَوالَ هذه الدهور ما الذى جعلكم مطمئنّين هكذا إلى أن العبارةَ "شعر"، بِمَ كانت "شعرًا"، وبماذا نردُّ على من يزعمُ - غيرَ معتبرٍ أو محترمٍ للإجماع - أنها ليست "شعرًا"؟
أغلبُ الظن أنه لن يكون عندهم إلا جوابٌ واحد: التقطيع. هذه القسمة المرسومة أمامَ أعيننا، هذا الواقعُ المحسوس الذى نطابقُ بينه وبين أى بيتٍ من "الطويل" فينطبق. قلتُ: هذه الحجةُ قائمة على مغالطة؛ على أن العبرة بالرسم، لكنها تتجاهل أن هذا الرسم رسمٌ لشىء. ونحن فى طلَب هذا الشىء لا فى طلب صورة له "ممكنةٍ"، كما قلتُ مِن قبل. ماذا كان ذلك "الشىءُ" قبل أن يتقطّع على هذا النحو أو ذاك؟ أليس شيئًا؟ بلَى. فمن حق العقل علينا أن نسأل: ما هو؟ ثم أليس "كُلًّا"؟ بلى. فما حقيقةُ "كُليّته" تلك؟ هنا يخطرُ لى، وحَسَنٌ أن يخطرَ لك أيضًا، أن الألمان لديهم كلمةٌ تنفعنا هنا لأنها تزيحُ بعضَ غموض المسألة، هى قولُهم فى معنى "الكل" أو "الكلية": gestalt "جشْتالتْ". وهم يروْن أنها فى مثل هذا السياق لا يصح أن تترجم. [راجع المادة فى York German Dictionary] كأنهم رأوا فى دلالة الكلمة هنا شيئًا يتجاوزُ الكلَّ الرياضى، أى القابل للحساب، أو الجسمانىّ القابلَ للتحليل، إلى ما يمكن أن نسمّيَه بالكلّ "النفسانى".
تلك هى المسألة. إن الذى قاله امرؤُ القيس يتجاوزُ ذلك الرسمَ، وكلَّ رسم آخَر ممكن. إن ما ابتعثه إلى القول فلبَّى شىءٌ أسمى، شىء "عُلْوى"، كذلك الذى رآه الصرفيون فى "الأوزان" الحاكمة للكلِم العربية، وكالذى رآه ابن جنّى فى اشتقاقه الأعلى من الاشتقاق المعتاد، شىءٌ لا بأس بأن نتابعَ الألمان فى تسميته "جشتالت". شىء هابط - بعبارة ابن سينا - من "المحلِّ الأرفع"، أو فلنقلْ كما قال "أبو على" مِن عند الله.
وكأنا بلغنا أخيرًا بغيتنا، وانتهينا إلى "القرار" المأمول. الشعرُ العربىّ مركّب كما قال العروضيون من سبب ووتِد وفاصلة، وتلك أجزاؤه الأوائل، وهى إيقاعات، لكنها إيقاعات "عامة" لا "خاصة" بالشعر. ومنها تركّبت "التفاعيل"، وهى إيقاعات، لكنها كذلك  "عامة" لا "خاصة".
أمّا الخاص بالشعر، الفيصلُ بينه وبين النثر، فهو ما سمّاه الخليل بالبحر. وكما ثبت أن الإيقاعات الأوائل لا تتبعّض، فكذلك الإيقاعات الثوانى "التفاعيل" لا تتبعّض، وكذلك إيقاعات البحور، لا تتبعّض، إنها ‘جشتالتات’ أو قُل ‘وِجدانات’ يعجز كل تحليل عن تفسيرها، لأن التحليل منوطٌ بالمادة، والوجدان ليس بمادة؛ إنه حركة النفس العربية عند الجيشان؛ إنه "الطبيعة"، إنه "الخلقة"، إنه "الفطرة"، ولا زوال له - مِن ثَمَّ - إلا إذا اختلّتْ النفوسُ أو ألَمَّ بها لَمَم. ومعنى أنه لا زوال له أن السعْى إلى إزالته "خطيئةٌ سياسية"، لأنه محاولة لهدم "البنية" القومية المتمثلة قبل كل شىءٍ فى اللغة كلها نثرِها وشعرِها وقرآنِها.



(1) نبهنى أحمد مهران، أحدُ أصحابنا، إلى أن عند الأعشى بيتًا من البسيط الأصلىّ هو قوله:
ولا تكونى كمن لا يرتجى أوبةً


لذى اغترابٍ ولا يرجو له رِجعا



الحسانى حسن عبد الله