الثلاثاء، 12 مايو 2015

بيــان (الحساني وقضية الشعر الحر)

الحساني وقضية الشعر الحر

بيــان

اختلط الحابل بالنابل، فلابد من وقفة لنفي الالتباس.
ولنبدأ من الأمر الواقع، انتصر الشعر الحر، فإن منه تسعةَ أعشار ما يُنشر منذ ربع قرن(1) تقريبًا، ولو اطَّرد النصر لأَمسى الكلام المـوزون المقفى أثرًا من آثـار الماضي، فهل نكسـب أو نخسر؟
إن الذي لا شك فيه عندي أننا خاسرون، وأن مزيدًا من إفلات الزمام مُفْضٍ إلى تهلُكةٍ محققة، وها هو ذا أول الشر، شيوعُ الركاكة والتخليط والتشابهِ والتوسط، والفنُّ كله على النقيض، إحكام، وقصد، وتميز، وعلو، أما آخره فموتُ العربية- عاشت لنا- أي موتُ العرب.
وإيمانًا بوجوب أن يحيا الشكل القديم، وبأن الشعر الحر صائر بالشعر وباللغة  إلى فساد هائل جاء هذا الديوان ضربًا من الكلام الموزون المقفى.
على أن امتلاء الورق غيرُ امتلاء النفوس. وليس مِن هذا انتصار الشعر الحر، فهو لا يزال غريبًا   على الأذواق الخاصة لأنه متخلف عنها، وغريبًا على الأذواق العامة لأنها متخلفة عنه وعن غيره، أما كونه يُباع و يُشترى فلأن الجو خلا. رقِيَ المنابرَ غيرُ أهلها، لانحطاط التعليم من جهة، ولأن للفكر الدخيل من جهة أخرى مآرب، فاختل النظر، واستشرى الاختلال لأنه صادف نوعًا من الخور والاستكانة خيّم على الحياة العامة حتى كادت المبالاة أن تصبح خُلقًا شاذًّا.
طَلب مني مرةً رئيس تحرير لإحدى المجلات الأدبية(2)  ليس من ذوي المآرب(3) أن أُسْمِعَهُ، وعنده بعض الأدباء، قصيدةً كان ينظر في نشرها، ففعلت، ثم سألني رأيي فقلت: كأني لم أقرأ شيئًا. وما بالغتُ إذْ كانت ركامًا من ألفاظ يرتطم بعضها ببعض بلا ضابط، وهو كثير في الشعر الحر يسمونه أحيانًا تعبيرًا بالصورة، وليس من التصوير في شيء، لأن التصوير إعمال المخيلة، فإذا لم تعمل فنحن تُجَاهَ صلصلة لفظية خاوية لا يســـتر خواءَها الإبـــهام ولا ندودُها عن اللغة المــعــتـــادة. فــلم يعترض رئـــيـــس التـــحــرير، ولم يعترض أحد من الحضور، لكنه أمر بنشرها! ولنتصور حال القارئ يُلْقَى إليه بالهراء كي يُعجب به، وهو في الأغلب الأعم أقل مقدرةً من رؤساء التحرير وعلية الأدباء على الفهم والذوق، مزيدٌ من الحيرة، أو مزيدٌ من الإذعان للأمر الواقع، أو ادِّعاءٌ للفهم والذوق خوفَ الاتهام بالتخلف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)     نُشر هذا البيان أولَ مرةٍ سنةَ 1974.
(2)     هو الأستاذ يحيى حقي- رحمة الله عليه.
(3)     المآرب أعني بها الأهواء.


وهكذا تفاقم الداء، وانتصر الشعر الحر، الكلام الذي قلَّ أن يُفهم، وإياك أن ترد الدعوى كما ردها قديمًا أبو تمام، لم لا تَفهم ما يقال، فهذا احتجاج خَطابي غير مجد بعد ساعته، لا يدفع عن الشاعر إن كان يُغرب في غير شيء أو يفتعل مجازات ليس فيها غيرُ مهارة الافتعال كما يفعل أحيانًا، ولا تقل مستنيمًا للمنطق الخَطابي إن شعر أبي تمامٍ عاش وهو الذي قيل فيه "إنْ كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل" فأنت حينئذ تقيس غافلًا عن فارق ضخم، أن قولة ابن الأعرابي قولةُ فَرْدٍ، أو فئةٍ من فئات، وليس كذلك حكم الناس الآن   على الشعر الحر بأنه لا يُفهم، فهذا حكم رأي عام وهو حكم يوجب علينا، وإنْ تَهَيَّبَ الجَهْرَ كثيرًا لسيطرة الشعر الحر على الصحافة والإذاعة، أن نعيد النظر، وليس حتمًا أن يكون الرأي العام على صواب، ولكنه هنا على صواب، لأن للذوق المدرب أيضًا نفس الرأي. إن للمجاز منطقًا، يعرفه الشاعر والمتلقي، بعضه  من فطرة اللغة، وبعضه من فطرة الخيال الإنساني على وجه العموم. فإذا قامت علاقات جديدة بين الألفاظ تفتقر إليه لم يكن الإبلاغُ. وهذا هو الواقع في أكوام من التخليطات يسمونها صورًا في الشعر الحر.
ولا تقل إن في الشعر الحر بعض الإجادات والعبرةُ بالشعر، فهذه كلمة حق ولكن لا محصَّل لها، لأننا لا نختلف في وجوب أن يكون الشعر شعرًا حتى يكون الخلاص من العيوب أحيانًا، أو اتفاقُ الإجادة فيصلًا في هذه المشكلة المعقدة، أو مدعاةً لاجتناب البحث في علة العدول عن الشكل القديم، وفي علة الانحدار المتوالى للشكل الجديد، وفي مصيره ومصيرنا معه إذا ارتضينا التسليم. إن الشكل القديم لم تنقطع إجاداتُه قديمًا وحديثًا وهو يَغرب أمام أعيننا دون أن تنفعه الإجادة، وإن الشكل الجديد  لم تنقطع إساءاته منذ وُلد وهو يواصل الحياة كما يواصلها المعافى من الأدواء، إذن فليست العبرة بالنص الجيد، إنما العبرة بالنظر الدائم فيما يجري والمبادرة إلى التقويم، من أجل تقدم صحيح، وحياة تُمسكها إراداتٌ يقظة.            
والسؤال عن علة الجديد لازم، ولكنه في قضيتنا شديد اللزوم، ذلك أن الشعر الحر خرج  على أبرز خاصة في موسيقى القصيدة العربية منذ الجاهلية حتى اليوم ، وهى جريانُها على نسق ثابت يقوم على البيت أو المقطوعة. والمقطوعة عنوان تنطوي فيه كل أنواع التجديد الطارئة على الأوزان كالمسمّطات والموشحات قديمًا وبعض شعر "المهجر" و"الديوان" و"أبولو" حديثًا. وخروجه هذا لا يعني أنه صار نثرًا ، لأنه يتقيد     - في معظمه - بتفعيلة واحدة تتكرر في كل سطر من سطور القصيدة، وهذا قيد لا يعرفه النثر، واختلفت بهذا الخروج اختلافًا كبيرًا موسيقى الشعر، فبعد أن كانت الأذن في الشعر الموزون المقفى تتوقع الشطر     أو البيت أو المقطوعة انصرف التوقع في الشعر الحر إلى التفعيلة المفردة، إذ هي الشيء الوحيد الذي يَـثبت في القصيدة والمعلوم أن التوقع منوط بالثابت.
والذي هيأ لهذا النوع الجديد من النظم نوعًا من الإيقاع، مع مغايرته للأصل الذي بُنى عليه الإيقاع       في الشعر العربي، أي صدور النغم من اجتماع طائفة من الأصوات على نحو مخصوص تتكرر على نحو مقدور، أن للتفعيلة مفردةً وقْعًا موسيقيا، يظل لها بطبيعة الحال إذا تكررت على أي نحو. خذ مثلًا مستفعلن، فأنت تستطيع بالنقر أن تتبين نغمتها، وهي نغمة أظن أن تبينها ممكن لكل أذن لا للأذن العربية فحسب. السببان نقرتان والوتد نقرتان أسرع، أو قلْ إن بين النقرتين الأولى والثانية زمنًا أطول مما بين الثالثة والرابعة. فإذا كانت التفعيلة مفردةً موسيقَى فلا بد أن تكون مجتمعةً بمثيلاتها في أي مدًى موسيقَى.
ومن هنا استطاعوا أن يبنوا الكلام على مستفعلن، ومتفاعلن، وفاعلاتن، ومفاعيلن، وفعولن، وفاعلن،  مع التزام التفعيلة المختارة من أول القصيدة إلى آخرها وترك الالتزام بعدد مقدور فى السطر. وبعملية حسابية بسيطة نعلم أنهم نبذوا من بحور الشعر- إذا نَفينا المضارع لأنه مَنفي من قديم، وأضفنا مخلّع البسيط لأنه  في الحقيقة بحر مستقل وإن ألحق بالبسيط- عشرةَ أبحر كلها سائغ مستعمل حتى اليوم(1)، هي الطويل والمديد والبسيط ومخلع البسيط والوافر والسريع والمنسرح والخفيف والمقتضب والمجتث، ثم أضف إلى هذه العشرة  ما يتفرع منها وما يزيد عليها بالاختراع وقل لي ألهمك الله الصواب فيم هذه الخسارة!؟ إن هذه الأبحر المركبة شيء غريب حقًا، سرها غائر في طوايا النفس العربية الشاعرة، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، ما الذي يُنشئ من هذا الترتيب لحنًا متميزًا معجِبًا؟ وكيف كان إدراكه؟ أغلب الظن أن الجواب ليس في طوق البشر، لأن السؤال عن أمر متعلق بجوهر الروح، وهي من أمر الخالق.
ولا تستهن ظانًّا أنه خسران طائفة من الأنغام، فالحقيقة أنه خسران للمقدرة على البيان، لأن الأنغام    في عالم الأصوات المجردة أو في عالم الأصوات اللغوية بعض وسائل العبارة عما في النفس. وهي لا تُترك إلا لعلة مقنعة لا اعتباطًا وتحكمًا، فما العلة.
قالوا نفيًا لرتوب الموسيقى في الشعر الموزون المقفى.
ونقول إن القصيدة العربية لم تعرف الرتوب كما عرفته في الشعر الحر، ذلك أن انصراف التوقع      إلى التفعيلة ضَيَّق من المدى الذي تترد فيه الأصوات، أو من الفراغ المقدور الذي يُحدث مَلؤه ضربًا      من المفاجأة الممتعة، إذ يتسع وهو مقدور، في الشكل القديم القائم  على الشطر أو البيت أو المقطوعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)     يزيدُ العددُ كثيرًا على عشرة إذا اعتبرنا الصور المختلفة للبحر- متماثلًا أو مركبًا- باختلاف الأضرب.


 فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن، هذا هو المدى المقدور أو الفراغ المطلوب ملؤه. يملؤه المتنبي مثلًا فيقول: وما العشق إلا غِرة وطماعة، ونصغي فإذا شيء كأنه يتولد أمام أعيننا، تحس الأذن إحساسًا بين الإبهام والوضوح أن البدء إلى غاية، فَتُتَابِعُ الأصواتَ المتشكلة راضية عن تنوعها من حيث هي أصوات، وعن ظهور النحو أو المعنى فيها، وعن القرار أخيرًا، جملة لا تفصيلًا، إذ إن للقرار- وإن جاء آخرًا- نوعًا ما من الوجود مستشعَرًا منذ البداية. فانظر ما يصنعه اتساع مدى الشطر في الطويل. ثم انظر ما يكون   في الشعر الحر. تفْطن الأذن إلى نغمة السطر الأول، أو التفعيلة الملتزمة، ثم لا تدري على أي نحو يأتي السطر التالي، لأنه ليس هناك مدى مقدور، فيتجه انتباهها قليلًا إلى التماس التفعيلة، الشيءِ الوحيد الثابت، ثم لا تدري على أي نحو يأتي الثالث والرابع والخامس فيزداد الانتباه إلى التفعيلة شيئًا فشيئًا حتى ينصرف التوقع كله إليها فينشأ الرتوب والملل. شيءٌ مشابه لما يحدث عند سماع دقات المطر أو القطار. انتباه  في البداية راجع إلى توالي الوقع، ثم غفلة راجعة إلى دوام التوالي. وكان لابد أن يظهر العيب فظهر واشتد ظهوره حتى اشتكى أنصار الحركة أنفسهم. قالت نازك الملائكة: إن أغلب الشعر الحر رتيب ممل الوقع. ويعقب الدكتور إحسان عباس على قول البياتي:
وضريحُ ميرابو وروبسبيرَ والفكرُ المهانْ
والثلج والعتمات والمتسولونْ
وسعال طفلتنا المريضة والبواخرُ والزمانْ
وصليبُ ثورتنا القديمْ
فيرى فيه حركة مُنِيمةً، وطنينًا يصرف المتلقي عن التأثر والتعمق بما يحدثه من استرخاء. لكنه يحسب أن هذا الرتوب المنيم في شعر البياتي دون زملائه وأن مرجعه إلى تكرار واو العطف، وليس الأمر كما ذهب، إنما هو تلك الخاصة التي قلما تنجو منها قصيدة من الشعر الحر، لأنها الأساس الذي يقوم عليه، انصراف التوقع إلى التفعيلة. وإليك مثلًا آخر من الرجز، وهو من أضعف البحور تميزًا في الوزن، لنرى مبلغ ما تشيعه هذه الخاصة من خدر، يقول عبد الصبور:
هناك شيءٌ في نفوسنا حزينْ
قد يختفي ولا يَبينْ
لكنه مكنونْ
شيءٌ غريب غامض حنونْ
يستطيع من لا يقع تحت تأثير الحركة المُنِيمة أن يلحظ الخطأ في الاستدراك. يريد الناظم أن يقول    إن الحزن قد يحتجب لكنه موجود، فقال إنه قد يحتجب لكنه محجوب، فأصبح الاستدراك غير ذي معنى.  ولا سبيل لدفع الخطأ بادعاء الترادف بين الوجود والكنون فالفرق واضح بين المعنيين. ربما كانت غفلة من الناظم، ولكنى أحسب أن رتوب الإيقاع، مع القافية وهي غير لازمة في الشعر الحر، كان لهما فعل في الغفلة، فقد أسمعت المقطع لبعض الأدباء فلم يُلحظ الخطأ. أفهاذا هو الشكل الذي يُراد له أن يخلّص الوزن القديم من الرتوب المزعوم؟!
وقالوا: إن الشكل القديم يفرض على الناظم لما فيه من ثبات أن يقول ما لا يريد. تورد السيدة نازك بعض الجمل في مقدمة ديوانها "شظايا ورماد" مكتوبة كما يلي:
يداك للمْس النجومْ
ونسجِ الغيومْ
يداك لجمع الظلالْ
وتشييد يوتوبيا في الرمالْ
ثم تقول: "أتراني لو كنت استعملت أسلوب الخليل كنت أستطيع التعبير عن المعنى بهذا الإيجاز وهذه السهولة؟ ألف لا، فأنا إذ ذاك مضطرة إلى أن أتم بيتًا له شطران فأتكلف معانيَ أخرى غيرَ هذه أملأ بها المكان وربما جاء البيت الأول كما يلى:
يداك للمسِ النجوم الوِضاءْ       ونسْج الغمائم ملء السماءْ
وهي صورة جنَى عليها نظام الشطرين جناية كبيرة. ألمْ نلصق لفظ "الوضاء" بالنجوم دونما حاجة يقتضيها المعنى إتمامًا للشطر بتفعيلاته الأربع؟ ألم تنقلب اللفظة الحساسة "الغيوم" إلى مرادفتها الثقيلة "الغمائم"، وهي على كل حال لا تؤدي معناها بدقة. ثم هنالك هذه العبارة الطائشة "ملء السماء" التى رقعنا بها المعنى وقد أردنا له الوقوف فخلقنا له عكازات. هذا كله إذا نحن اخترنا الوزن المتقارب، أما إذا اخترنا الطويل مثلًا فالبلية أعمق وأمر، إذ ذاك تطول العكازات وتتسع الرقع وينكمش المعنى انكماشًا مَهينًا فنقول مثلًا:
يداك للمس النجـمِ أو نسج غيمةٍ يسيّرها الإعصارُ في كل مشرقِ"
منطق تنضح منه السذاجة نضحًا. صياغة مقترحة معيبة ثم قفز إلى نتيجة غير لازمة، فماذا لو جاءت الصياغة بريئة من العيوب، وهو ممكن عقلاً وواقعًا. لقد كانت السيدة تستطيع أن تقول مِن المتقارب  في بيتين دون أن تضطر إلى تلك الركاكة التي صنعتها بنفسها لكي تسفهها:

يداك للمس النجومِ، ونسج الغيومِ، يداك لجمع الظلالْ
وتشـييد يوتوبيا في الرمالْ، يداك تعلقتـا بالمُحـالْ
الجمل التي أوردتها السيدة ثلاثة أشطر والشطر الرابع إضافة تقتضيها دلالة ما قبْله.
وقد أثْبتُّ هنا قولها "ونسج الغيوم" وإن كان لغوًا نفيًا لِمَظِنَّةِ التقصير عن أداء المعنى المقترح ومُحافظةً على المادة المعطاة بحذافيرها. وهو لغو لأن السياق كله يدل على محاولة المحال. ومن المفهوم أن يكون منها لمس النجوم وجمع الظلال لأن النجوم بعيدة فمن المحال لمسها، والظلال غير قابلة للقبض فمن المحال جمعها، أما الغيوم فما صفتُها التي من شأنها أن تجعل محاولة نسجها محالًا!؟
وكانت تستطيع أن تقول من الطويل في بيتين دون أن تلجأ إلى عكازات أو رقع، ودن أن ينكمش المعنى انكماشًا مَهينًا أو غير مَهين، ودون أن تقودها القافية إلى اللغو:

تمدُّ يدًا تبغي من النجم ملمسًا، فتهوِي لتجميع الظلال بـلا حولِ
يَدٌ شَيدت يوتوبيا في مَهَامِهٍ، وما شيدت إلا السرابَ على الرملِ
وربما أتى غيري بأجود مما صنعت. فهل نخلص من هذه الإجادة إلى إبطال الاتهام للشكل القديم؟ كلا، هذه أيضًا نتيجة غير لازمة لأن الحكم على شكل غيرُ الحكم على عبارة فيه. إذن فالمُحاجّة كلها غير مفضية إلى شيء لأنها تعلقت بعوارض الشكل لا بالشكل.
وهاك مثلًا آخر منها. يقول نزار قباني من قصيدةٍ في "جميلة بُوحَرِيد":
الاسمُ
جميلةُ بُوحَيْرِدْ
رقمُ الزنزانة تسعونا
في السجن الحربي بِوَهْرانْ
والعمر اثنان وعشرونا
عينان كقنديلي معبدْ
والشَّعر العربي الأسودْ
كالصيف: كشلال الأحزانْ
إبريق للماء، وسجّانْ
ويد تنضم على القرآنْ
وامرأة في ضوء الصبحِ
تسترجع في مثل البوحِ
آياتٍ محزنة الإرنانْ
من سورة "مريمَ" و"الفتحِ"
ويرى صلاح عبد الصبور أن من حسنات هذا النص أن صاحبه استعان بفن القصة وفن الرسم وفن كتابة "السيناريو". ثم يقول: "لست أشك في أن الشاعر لو حاول أن يلتزم "فعلن" أربع مرات في كل شطر لما استطاع أن يُكوِّن هذه الصورة عن طريق الجملة السريعة الخاطفة." ينبغي أن نلاحظ قبل اختبار هذا اليقين بعجز الوزن والقافية تَسَيُّبَ المقياس واتساعَه وافتقاره إلى علة فنية صحيحة تكفل له أن يعد من مقاييس الشعر. قصةٌ، ورسمٌ، وسيناريو، أو جملٌ سريعة خاطفة. هذا هو شرط الكلام الذي يُعجز أمثـال ابن الرومي والمتنبي وأبي العـلاء وهـو لا يعجز شاديًا في الشعر الحر! أيها السادة أنتم مخطئون، لأن للشاعر أن يستعين بما شاء من فنون، وله أن يسرع بالعبارة أو يبطئ، لكنه مطالب على كل حال أن تبرأ عبارته  من العيوب التى تَشينُها من حيث هي شعر. فإذا عيبت فليس بنافعها أن تكون جملًا سريعة خاطفة أو أن يكون فيها مَشابِهُ من القصة والرسم والسيناريو. والنص الذي بين يدينا فيه عيوب كثيرة. منها التقرير غير المفيد. يقول الناظم: انتبهوا أيها الناس: إنني سأتحدث عن أنثى تدعى جميلة بوحيرد، تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، ورقم زنزاتها تسعون في السجن الحربي بوهران. فما الشعر في هذه المعلومات "السينارية" ؟ ومنها ركاكة اللغة، كاضطراره إلى قطع همزة الوصل في كلمة "الاسم" واستعمال الواو في قوله "وامرأة  في ضوء الصبح"، يريد أن يَشْدَهَنا بغرابة المنظر كأنما يراه فجأة، ناسيًا أنه حدثنا من قبلُ عن أنثى اسمها جميلة لها عينان وشعر ويدان، فكيف تكون المفاجأة والمنظر مكتمل ؟ إنها لا تكون إلا إذا كَلَّ خيالنا عن أن يصنع صورة امرأة من تلك الأنثى التي لها عينان وشعر ويدان! ومنها كذب الشعور، وأمارته هنا الجمع في نفَس واحد بين جوين متناقضين، معبد تزيل القناديل بعض قتامته وصيف ساطع متوهج! ثم شلال، وماذا يكون الشلال إن لم يكن قوة وعنفًا واصطخابًا، مقترنٌ بالأحزان وهى انطواء وإطراق وتطامن! أرأيت إلى أين صار بنا الاهتداء بفن السيناريو؟ إلى هذه الرداءة التي لا يرضاها فن الشعر ولا فن السيناريو. ومنها رقاعة شائعة في الشعر الحر كله سنذكر علتها فيما يلي، أعني الفصل لغير ضرورة في كثير من الأحيان بين أجزاء لا تقبل الانفصال، كالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل، والجار والمجرور، والمضاف والمضاف إليه. ومثله هنا وضعه كلمة "الاسم" في سطر، و"جميلة" فى سطر. هذا هو الكلام المعجز، فليهنأ الشعارير، وغفر الله للحطيئة، كان يظن أن الشعر شيء صعب.! والآن إليك ما جزم عبد الصبور باستحالته، وقد ترخَّصتُ    في أمرين: قبول المادة كما هي، وإن كنت نفيت منها بعض العيوب، وقبول طوارئ على وزن النص، وهو ضرب خسـيس من المتدارِك، لا تجيزها قواعد العروض:
عينان أضاءهما إيمانْ، ويد تنضم على القرآنْ
 والشَّعر العربي الداجي كالصيف، كشلالالأحزانْ   
اثنان وعشرون ربيعًا، في السجن الحربي بوهرانْ    
وصباح ينظر في أسف لابنة بُوحَيْرِدَ وهي تهانْ
مسلمةٌ دنياها أمست إبريقاً للماء و سجان 
تسترجع في مثل الإفضاء بسر أعياه الكتمانْ 
 آيـاتٍ من مـــــريـــــــم والـــــفـــــــــتــح تَــــــــــردَّدُ مـــــحــزنــــة الإرنــانْ
مرة أخرى هذه مُحاجَّة فاسدة يجب الانصراف عنها إلى لب الدعوى لأنها قائمة على خطأ كما أوضحت، ولأن مجاراة التحدي بمثله - أعني معاياةَ أصحاب الشعر الحر بأمثلة من الشعر الموزون المقفى يُزعم لها الاستعصاء على أن تقال بترك النسق الثابت - أَمْرٌ مفضٍ إلى دَوْرٍ لا أول له ولا آخر.
ولب الدعوى أن الثبات في الشكل القديم يلجئ الناظم إلى الحشو من أجل بلوغ القافية ومَلءِ الفراغ المقدور. وهي دعوى تدرك البداهة أولًا ما فيها من فساد، لأنها تَغُضُّ ضِمنًا من الأنظمة التي قامت عليها أشعار الدنيا كلها منذ كان الشعر إلى يومنا هذا، وبعيدٌ أن تُجمع الدنيا على خطأٍ هذه القرونَ المتطاولة. لكنه ليس بمستحيل. أجل. إلا أن المنطق يدرك ثانيًا صواب البداهة. يقول أبو العلاء:
صاح هذي قبورُنا تملأ الرحبَ فأين القبور من عهد عادِ
خفِّـف الوطء ما أظن أديمَ الأرض إلا من هذه الأجسـادِ
لا حشو هنا. وقسم كبير من الكلام الموزون المقفى يجري على هذا المنوال. تخرج الفكرة فيه كأن الشكل لا يعترضها بتاتًا. ولكن قسمًا غيرَ هذا كبيرًا أيضًا يجري على منوال آخر. يقول طرفة:
وسقى دياركَ غيرَ مفسدها، صوبُ الربيع وديمةٌ تَهْمِي
أراد أن يقول: وسقى ديارك صوب الربيع، فلما لم يستقم الوزن قال: غير مفسدها. هذا حشو فطن     إلى أمثاله علماء البديع قديمًا فسموه: الزيادة التى يحسن بها المعنى. ويقول امرؤ القيس:
حملْت رُدينيًّا كأن سنانه   ،   سنا لهب لم يتصل بدخانِ
وقف المعنى عند قوله: سنا لهب، فزاد عليه لكي يصل إلى القافية بقيةَ البيت. وهذا حشو يسميه البديعيون "الإيغال" يَعنون به أن يوغل الناظم في الوصف تمامًا للبيت وطلبًا للقافية فيزيد على المعنى ما يزيد في تجويده. ويمكن أن نضيف إلى هذين المثالين ما لا حد له من الأبيات التي تدل على أن مجاهدة الناظم للشكل تأتي بالحَسَن. ولكنْ لن نجد مما يدل على النقيض إلا أمثلة قليلة، وِزرها بطبيعة الحال على الناظم لا على الوزن والقافية. فمرحبًا بنظام يستنهض الفكر للإحسان. وليس ذكرُ المجاهدة في هذا القسم يقتضي انتفاءها من القسم الأول، إذ هي لابد منها في الحالين، إلا أنها هنا ذات أمارات، وهناك لا شيء يدل عليها. ومع هذا لم يكن ظهورها من النوع الذى يشعرك بالجهد المبذول، فهي في الحالين مجاهدة فنية لا تُرِيكَ العَرَقَ وإن كان هناك. فانظر كيف يُعِينُ الناظمَ جريانُ فكره في مدى معلوم. إنه لا يفكر وحده بل يفكر معه، إن صح التعبير، الشكلُ أو الوزنُ. ولا يُفْهَمَنَّ من دفاعنا هنا عن الوزن والقافية أنّ تَرْك النظام المقدور في الشعر الحر نَفَى عنه الحشو. هاك مثلًا قولَ صلاح عبد الصبور:


 فشربتُ شايًا في الطريقْ
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديقْ
أراد أن يقول: ولعبت بالنرد مع صديق، فلما تأبّى الوزن أتى بهذه الركاكة. وصف النرد بما لا حاجة إليه، وعرّف الصديق والتنكير أفضل، و أراد أن يقول: الموزع بيني وبين الصديق، أو بين كفي وكف الصديق، فلما لم تطاوعه تفعيلة الكامل تخلّص على هذا النحو السيئ.
ولو استطردنا لامتلأت مجلدات.
وقالوا إن العبارة الشعرية حرة في الأصل، فيجب أن لا تُحَدّ بوزن مفروض حتى تَتَّخِذَ الشكل الذى يلائمها. وهي دعوى قائمة على أن الثبات في النمط غير مطلوب، ثم على أن اطِّراح كل نمط، سواء كان ثابتًا أو غير ثابت، أمر يجيزه جوهر الشعر. على باطل كبير يشهد ببطلانه الفن والعلم أيضًا في العالم كله. ذلك أن النمط الثابت في الوزن وغير الوزن، أي القاعدةَ على وجه العموم، مستقبِل منظِّم لحركة الفكر، فليس نقيضه الحرية بل نقيضه التوزع والتسيب والتوقف. إننا نفكر عن طريق القواعد، وإذن ليس عبثًا دقتُها وسَعتها وتركبها ومقدرة الذهن على العمل بها، بل دليل على ارتقاء الفكر وصلاحه لبلوغ ما لا يبلغه فكر أضعف في الأداة. لا فرق في هذا بين الشعر والنثر، إذ إن القواعد مطلوبة في كليهما، لا بد من لغة صحيحة ونَحْوٍ صحيح في النثر، ثم هذين ووزن صحيح في الشعر.
فإذا تركنا الوزن فنحن لا نتركه إلى عبارة تتخذ شكلها على هواها، بل إلى مستوًى في الضبط أدنى، وكل ما فعلناه حينئذٍ أننا خسرنا الشعر. وما هي الفكرة الشعرية قبل تمامها في وزن؟ أهي فكرة مجردة؟ كلا، حتى لو تجردت مرة أو مرات، ويعرف الشاعر أن هذا التجرد لا نفْع فيه لأنه يجد نفسه مضطرًا إلى استئناف القول، والإعراض عن هذا التدخل المربك من الفكر المنطقي. إنها نزوع إلى الغناء. إن الشاعر يقول لأنه يريد قبل كل شيء أن يغني. ولو كان مراده أولًا أن يعبر عن معنى لاكتفى بالنثر. والوزن إذًا هو الذي يُبلغه ما يريد: فليكن إذًا رفيقَه منذ البدء. ولكن لكي يصبح النزوع إلى الغناء غناء لا بد من اللغة. واللغة أصوات وألفاظ ونَحْوٌ، فلا مناص له إذا أراد لغنائه أن يتجاوز التَّرداد الآلي البدائي ويسمو إلى سماء لا تحلق فيها إلا الأرواح المتطلعة المتوثبة من التزام الصوت واللفظ والنحو، أي المعنى. وما المعنى إذن إلا مادة لصنع الكلام الموزون، ليس هو الأصل، بل الوزن هو الأصل. والشعر إذن كله موسيقى، لفظه ومعناه، لا عبرة فيه بالوزن المجرد ولا بالمعنى المجرد بل بكليهما معًا. والفكرة فيه فكرةٌ في وزن لا فكرةٌ ووزنٌ. إنها حوم، أو تحسس، أو استكشاف، يُعِينُ عليه نشاط عاطفي خيالي ذهني لا يُبْقيه ذاكيًا إلا الوزن، من أجل الوقوع على مادة الغناء. فإذا كان الوقوع كان شيءٌ لم يكن في الحسبان. شيء ما كان حاصلًا بغير الوزن. والشعر المنثور إذن قول متناقض، ومثله قصيدة النثر، فهو ليس شعرًا وهي ليست قصيدة، إلا على تجوز وتوسع.
وقالوا ما قاله الزمخشري قديمًا مرتئين فيه حجة، إن بناء الشعر على وزن مخترع لا يقدح في كونه شعرًا، ولا حجة فيه لأن هنا شرطًا مفهومًا ضمنًا من قوله "وزن"، أن يجري المخترع على ما جرى عليه المعهود، أي أن يكون سائغًا ومركبًا من أشطار أو أبيات، كقول البارودي:
املأ القَدَحْ   ،    واعصِ من نصحْ
فإذا فارقَ هاتين الصفتين، أو إحداهما كما نرى في الشعر الحر، لم يصدق عليه المعنى الذي يصدق على كلمة "وزن" في عبارة الزمخشري.
وقالوا إن التزام الشكل القديم يفرض على الشاعر أن يتأثر بما قاله الأقدمون فيعجز عن التجديد وتلبية المطالب الطارئة. ولو صح هذا  ما عاشت أوزان الشعر الغربي حتى اليوم. خذ مثلًا بحر "الإيامب"       في الشعر الإنجليزي، فهو قائم عند الكلاسيكيين والرومانتكيين والواقعيين وغيرهم من أتباع المدارس الجديدة، فكيف ثبتَ الوزن على اختلاف العصور والمذاهب؟ ثبت لأن تغير الأجيال، وهو لا يعني تغير الإنسان   من حيث هو إنسان، لا يقتضي تغير الأشكال. وثبت لأن الشاعر محتاج إلى تراثه حتى لو كان غريبًا    عن واقعه. وثبتَ لأن الموسيقى الفطرية لا تتغير إلا إن تغيرت الفطرة، وهيهات. أما أن يتخلف في كلام الشاعر صدى أو أصداء من كلام الماضين فهو مزية لا عيبٌ ما دام الحاصل بنية "جديدة". إن الشاعر  لا يبدع في فراغ، ولكنه يبدع مستعينًا بلغة لها تراثها وأصولها، وهو إذا كان ذاتًا أصيلة متفردة فلن تقيده القواعد، ولن يمنع انطلاقَه امتلاء فكره بما قال الأسلاف: إن عنده ما يقوله، القواعد، والثقافة، والقدرة  على التصرف في كل هذا، فلا بد أن يكون الناتج شيئًا جديدًا لا يَضيره أن يَبِينَ فيه أحيانًا أثر القراءة  في أدب لغته قديمًا أو حديثًا، أو أدب غيرها من اللغات.
ها هي ذي مزاعمهم تهافتت كلها، فماذا بعد؟
إن واقع الشعر الحر يدلنا على أنه صائر إلى النثر عاجلًا لا آجلًا. ولهذا المصير دلائلُ منها كثرة الأخطاء العروضية، وإذا كان الشعر الحر يقوم قبل كل شيء على دعوى عروضية فلا دلالة لهذه الأَغْلاطِ المتفشية إلا القصور أو الإهمال، وكلاهما عيب جسيم في من يتصدى للتوجيه والإصلاح. ولا أثر لها إلا  أن يُعرض القارئ المتبصر عن المقصرين أو المهملين، وأن يسهم الخطأ في تضليل غير المتبصر فتختلط الحدود في سمعه بين الشعر والنثر حتى يفقد القدرة على التمييز بينهما. ومن هنا ينشأ جمهور متخلف يجرّ الشعراء معه شيئًا فشيئًا إلى التخلف.
ومنها الدعوة إلى الخلط بين تفاعيل لا يؤدي الجمع بينها إلا إلى النثر. كالجمع بين "متفاعلن" و"مفاعلتن" والحجة التساوى في عدد المقاطع. قال بهذا المرحوم الدكتور مندور مستشهدًا ببيت النابغة:
أمِن آل ميةَ رائح أو مغتدي     عجلانَ ذا زاد وغيرَ مزوَّدِ
في البيت خزم تتخلص منه القراءة الشائعة بتحريك النون في "من" وحذف الهمزة ووصل حركتها بحركة النون فتصبح التفعيلة الأولى "أَمِنالمىْ"، ولكن الدكتور يقترح قراءة أخرى تتخلص من الخزم لتقع في خطأ لا شك فيه، أن يُترك المد في همزة "آل" فتصبح التفعيلة "أمِنْأَلِمَيْ" أي مفاعلتن، وهي قراءة تخرج على العروض واللغة. وبالحجة نفسها تسوغ السيدة ملك عبد العزيز الخلط بين "مستفعلن" تفعيلة الرجز و"مفاعيلن" تفعيلة الهزج. وبالحجة نفسها ترى نازك الملائكة إمكان الجمع بين "مفاعيلن" و"فاعلاتن" تفعيلة الرمل. وهي حجة ساقطة لا يؤيدها منطق ولا شاهد. فإذا علمتَ بعدُ أن الدكتور مندور لا يرى- كما قال- في تبرير الشعر الحر والدفاع عنه ضرورةً للتمحك بعروض الخليل لأنه يرى "أن الشعر الحر لا يخرج  على عروض الخليل في عدد التفعيلات داخل كل سطر فحسب بل يخرج عليه خروجًا أكبر بكثير"، وأنّ لهذا الرأى شيعةً، فالمصيرُ ماثـل أمام عينيك.
ومنها تبشير الدكتور لويس عوض بما ندعوه "شعر العجلات"، فهو يرى أن الشعر الحر سيتغير بعد مائة سنة، وأن شعر صلاح عبد الصبور سيصبح حينئذ تقليديًّا لأن موسيقى جديدة ستنشأ- بدلًا من موسيقى الشعر الحر- تأثرًا بكل ذي عجَل من الآلات. وهي بشارة تنطوي على إزراء بشعراء الغرب ونقاده الذين فاتهم أن ينتبهوا إلى بركات المخترعات عندهم، وأن يفطنوا إلى الموسيقى الجديدة التي كان يجب أن يوجدها ضجيجُ القطارات والطائرات!!
ومنها دعوة قوية في لبنان إلى اطِّراح الوزن جملةً من أجل "قصيدة النثر" وهو مصطلح غربي لا يريد به أصحابه إلغاء الوزن كما ذهب الهدامون من جماعة "مجلة شعر". وهذه دعوة ليست غريبة على الشعر الحر، إذ إن أصحابها يتابعون الشعر الحر أحيانًا في طريقته، وإن كانوا قد وضعوا أنفسهم فوق كل الضوابط والقواعد. ليس يعنيهم  أن يجيء كلامهم نثرًا أو شعرًا حُرًّا أو شيئًا بين بين، بل إنهم يلتزمون أحيانًا مع هذا الخليط الوزن والقافية. وقد حاول بعض أنصار الشعر الحر اعتراض هذا العبث ولكن بلا جدوى. لقد أفْلت الزمام، وإذا كان مقدرًا له أن يُقبض عليه مرة أخرى فلن يَقبض عليه مَن أفلتوه.
ومنها دعوة الدكتور النويهي إلى نظام جديد غير نظام الشعر الحر يقوم على النبر، وهو ما يقوم عليه الشعر الإنجليزي، لأنه يرى أن الشعر الموزون المقفى قد استنفد قدرته على البقاء، وأن الشعر الحر يوشك أن تخور قواه، وأنه لا مناص من هجر النوعين إذا أريد للشعر العربي أن يكون جديرًا بالبقاء. وهو رأي يتجاهل طبيعة اللغة العربية من جهة، إذ إنها ليست لغة نبرية، وينطوي من جهة أخرى على ذلةٍ للغَرْبيين يعلم الله مبعثها، إذ يعلِّق تمام الصلاح على الاستعارة منهم. وهو رأي محكوم عليه بالموت، لكنّ له دلالته على مصير الحركة، لأن صاحبه من كبار المنتصرين لها.
أرأيت مبلغ الانحلال واطمئنانِ الْهَوَج!
والآن إنا لفي مفترق. هذا طريق، وهذا طريق. فاختر لنفسك، ولا بد أن تختار لأن الافتراق وَاقِعٌ لا محالة.  لن يسير النمطان معًا. لن يجتمع الثبات والتسيب. أما أنا فقد اخترت.
أرفض الشعر الحر.
لأني على يقين من فساد النظام الذي يقوم عليه. إن للشكل فعلًا فيما يحتويه، إذ إن الوزن ليس شيئًا مضافًا إلى الفكرة الشعرية، بل إنه جزء لا يتجزء منها، أو هو هي، فصفاته إذن مؤثرة فيها لا محالة. وهنا لب القضية، أنَّ الشكل الذي يقوم عليه الشعر الحر ذو خصائص من شأنها أن تُضر بالكلام في مرحلة التكوين إضرارًا لا تنجو منه مَلكة مهما عظمت.
يقول السياب:
تعرّت الكرومُ والجداولُ انطفأن والحفيفْ
يموت في ذرى النخيل، والدروبْ
بِصَمْتِها انتظارْ
ويقول:
خيول الريح تصهل والمرافئ يلمس الغربُ
صواريَها بشمس من دم، ونوافذ الحانةْ
تَراقَصُ من وراء خصاصها سُرجُ...
ويقول:
سهرت فكل شيء ساهر، قدماي والمصباحْ
وأوراقي
هذه أمثلة لظاهرة يوشك أن يكون لها أمثلة في كل قصيدة من الشعر الحر، التضمين، وهو يعد عيبًا، وعيبه أنه يحدث ضربًا  من إخلاف الظن، ويقطع المتصل نزولًا على حكم العارض، لكن القافية تهون منه لأن المتعة بها تشغل الانتباه قليلًا عن كون الوقفة لا لزوم لها. فإذا قَلَّ- وهو قليل في الشعر الموزون المقفى- كان حسنًا لأن في تغيير الوتيرة وتعليق الانتباه شيئًا من التنويع في موسيقى الشعر، والمعنى كما عرفنا عنصر من عناصرها. أما إذا أصبح هو القاعدة فهو لهاث وعِيٌّ وخضوع ذميم للضرورة. وهو إفساد للغتنا التي يدلنا عمرها الطويل على أنها تنطلق إلى غايتها في استقامة ونشاط، وأنّ عجزًا زريًّا كهذا مغاير لطبيعتها. هذه الظاهرة عيبٌ في الشكل نفسه لا عيبٌ في أصحابه. يبدأ الذهن دفَع الكلام نحو الاتزان، فإذا وجد الناظم أن السبيل ممهد سار، وإذا اعترضه الوزن أو استهوته قافية آثر الوقوف والاستئناف غيرَ مبال بالتبعثر لأنه لا يجد ما يدعوه إلى اجتياز العقبة أو مقاومة الإغراء: ومن هنا -وشيئًا فشيئًا- حيث يُعتاد الكسل والانقياد للمصادفة، ينفتح باب واسع للتخليط والإغماض والإحالة والتقليد. يصبح الذهن عبدًا تحكمه الضرائر والعوارض. وهكذا يفقد الشاعر حريته في الشعر "الحر"!!
    أما على الشاطئ الآخر فالحال مختلف. لا سلطان هنا للمصادفة لأن القافية لا تطرأ فجأة.  ولا مجال للكسل لأن الذهن ملزم بقطع الشوط. والتعاون قائم لا محالة بين إرادته وإرادة الوزن، وكيف لا يقوم في نظام وضعته الفطرة؟! نظام أقْدر الإنسان على أن يستخرج من نفسه أفضل ما فيها. نظام واحد على اختلاف اللغات واختلاف البشر. نُسيء أكبر الإساءة إن لخصناه بأنه تساوٍ في الأشطار أو الأبيات، واتحادٌ أو تنوع في القوافي. فهذا وصف ظاهري يقف عند ما تراه العين دون أن يتغلغل في الباطن. أما الحقيقة فهو أنه على ثباته قابليةٌ للحركة الجياشة المتنوعة المتجددة، ولن يعرف الشِّعْرَ أبدًا من يَغفل عن الفرق الهائل في الموسيقى بين قول المتنبي:
ولِلْخَوْدِ مني ساعةٌ ثم بَيْنَنا فلاة إلى غير اللقاء تُجابُ
وقوله:
وما العشقُ إلا غِرة وطماعة، يُعرّض قلب نفسه فيصابُ
لأن البيتين من بحر واحد وقافية واحدة. ولنْ يرى فيهما رتوبًا إلا أناس لا يراجعون أنفسهم، غيرُ أمناءَ على حظهم من الفكر ولا حرصاءَ على حسن استعماله. إن الطبيعة التى هَدَتْنا، كما فعلتْ مع غيرنا،     إلى لغتنا بكل خصائصها وإمكاناتها هي التي هدتنا إلى هذا الأسلوب الذي تستطيع به اللغة أن تبلغ أقصى طاقتها على الرفعة. "وطبيعي" إذن أن يكون هناك انسجام بين القواعد التي بُنيت عليها الجوانب المختلفة للغة وبين القَالب الذي أريدَ له أن يتلقى اللغة بكل جوانبها متحدةً عاملةً في وقت واحد. أي بين اللغة أصواتًا واللغة ألفاظًا واللغة نحوًا واللغة عروضًا. لكأن الطبيعة شاءت بهذا العمل الغريب أن تساعد نفسها من خلالنا على معرفة نفسها، أو أن توجِد أداة لاستنطاق بواطنها أو بواطننا. فكيف ندمر بأيدينا هذه الأعجوبة التي جاءتنا من عالم الغيب لكي تبقينا على صلة به ؟!
أشطار وأبيات. نعم، ولكنها قُبل طائفة من القدرات لإظهار ما لا يظهر بغيرها. وما تنوعت عبثًا. فإن الفرق بين بحر وبحر هو فرق بين قدرة على التعبير أو التغني وقدرة أخرى. وهذا أمر يمكن إدراكه بالبديهة. إلا أنَّا نستطيع أن نلمسه لمسًا بالتحليل والحساب. خذ مثلًا بحر الطويل، إنه مبني على فعولن مفاعيلن أربع مرات. ولكن التفاعيل الثمانية التي يُبنى منها العروض يمكن أن تَدْخُلَهُ جميعًا، أي يمكن أن تَدْخُلَهُ كل الكلمات التي على وزن هذه التفاعيل. فهذا وجه من وجوه قدرة هذا البحر. ثم قَارِنْ بينه من هذا الوجه وبين مقطوع المتدارِك، وهو شائع في الشعر الحر شيوعهَ في حلقات الذكر، تَجِدْ أن هذا الوزن البدائي لا يمكن  أن تَدْخُلَهُ "متفاعلن" ولا "مستفعلن" ولا "فاعلاتن" ولا "فاعلن"، أي كُلُّ الكلمات التي على وزن هذه التفاعيل. وهو إذن لا يستطيع أن يلبي الحاجات النفسية أو الفكرية التى يلبيها بحر كالطويل. وهو إذا اعتراه التسيب المعروف في الشعر الحر ازداد عجزًا بطبيعة الحال لأن التسيب ضعف آخر يضاف إلى ضعفه الأصيل. فتأمل.

وبالتحليل والحساب أيضًا نستطيع أن نلمس لمسًا عجز هذا التسيب عن بلوغ نمط رفيع في البلاغة. قَارِنْ بين أمثلة من الكلام الموزون المقفى وأمثلة مكافئة لها من الشعر الحر من حيث مقدار الاستعمالات النحوية تَجِدْ أن الشواهد على أبواب النحو الدقيقة أو غير الشائعة قليلة هنا وكثيرة هناك. وما هذا إلا لأن اتحاد الوزن والقافية يقتضي من الناظم أن يكون قادرًا على تصريف الكلام حتى يستطيع أن يصل إلى القافية ويملأ الفراغ المقدور في غير تقصير. وليس كذلك افْتراقُهما لأنه يهوّن الأمر على الناظم ويسمح له بتقطيع أوصال الكلام متى شاء له العجز. هذا الفرق بينهما فرق بين نظام صالح لتلبية مطالب البلاغة، ونظامٍ يفتح الطريق واسعًا للثرثرة والكلام المتوسط المتشابه، لأن البلاغة مستفادة أولاً من معاني النحو، أو من "النظم" بالمعنى الذى أراده عبد القاهر. فإذا لم يكن في الشكل ما يستثير القائل إلى إنضاج أداته أَسَفَّ الكلامُ ولو كره صاحبه، لأن الشرط الأول لم يتحقق. أما أطنان الورق التي سُودت في تحليل الشعر الحر متجاهلة هذا الشرطَ فنحن نرى يومًا بعد يوم أمام أعيننا أنها تصبح محض أطنان من الورق المسَود. لكن المَدَّ مع هذا مستمر. وتلك هي المأساة. كلام مضطرب ساقط مكرور، غير مطلوب، وهو برغم هذا يُفرض فرضًا على الناس. هذه حال لا بد من تغييرِها، وإلا اتسعت الفجوة الناشئة بيننا وبين تراثنا، وقل الاهتمام بالكلام، وماذا نكون بغير تراث قادر على الإسهام في تكويننا، وبغير مبالاة باللغة أداةِ التعبير عن الفكر؟ هملًا ضائعًا    لا يدرى له وجهة، إن زحف الركاكة على الصحافات والإذاعات يجب أن يتوقف. ويجب أن يعمل كل مخلص للغته وأمته على الحيلولة دون انقطاعنا عن الماضي، فإن في الماضي فَـنًّا عظيمًا، وخبرة عظيمة، وقيمًا لا ينهض قوم بغيرها. أَيُّ خنوع هذا، أن تتضاءل القدرة في الناس على الإحساس الصحيح والفهم الصحيح ثم لا نفعل شيئًا. لقد ساءت الحال، واستبدادُ الشعر الحر على رأس أسباب السوء، فواجبٌ أن يعاد فيه النظر، وإنْ ظُن أنّه استوى على العرش.

إن الشعر الحر لم يوجد ليبقى، حتى على المسرح، على خلاف ما يحسب بعض "المعتدلين". فإنّ    في مسرحه أشكالًا وألوانًا من الإسفاف أرى أن وزرها لا يقع على الكُتاب فحسب، بل على النظام العروضي أيضًا من حيث هو، لكن هذا أمر يحتاج إلى بيان آخر. 
   
 الحسّاني حسن عبد الله